كتب معروف الداعوق في صحيفة “اللواء”:
منذ تأليفها قبل ما يقارب الثلاثة أشهر تحت عنوان حكومة «الانقاذ»، لم يهضُم اللبنانيون ان حكومة الرئيس حسان دياب هي حكومة اختصاصيين كما يطالب ويلحُّ عليه الحراك الشعبي، وكما تتطلبه ظروف الوضع والأزمة الاقتصادية والمالية المتدهورة، وذلك بعدما اخترقها واختزلها السياسيون الداعمون لها بمستشاريهم والمحسوبين عليهم وتحاصصوا الوزارات والحقائب علانية ولم تنفع محاولات ومواقف رئيسها في التلطي وراء مطالب وشعارات الانتفاضة الشعبية في تبديد صورة المحاصصة عنها أو إخفاء تبعيتها لحزب الله.
كان اللبنانيون ينتظرون من الحكومة إنجاز خطة مدروسة ومتكاملة لمعالجة الأزمة المالية والاقتصادية التي انزلق إليها لبنان منذ أشهر، وأن تتحرك بسرعة وفاعلية لاتخاذ سلسلة إجراءات تُعبّر عن مدى جديتها في معالجة هذه الأزمة والتخفيف من وطأتها وضغوطاتها المعيشية المتزايدة عن النّاس.
ولكن فجأة انقلبت الأولويات قبل نشوء أزمة فيروس «كورونا»، التي رتبت أعباء وتداعيات معيشية ومرضية واقتصادية إضافية على كاهل النّاس بفعل التدابير الوقائية على حركتهم وممارسة أعمالهم اليومية.
انحسر التركيز الحكومي على إتمام مكونات خطة «الانقاذ» بعد ظهور ملامح تخبط وعجز وقلة خبرة في اعدادها وبقيت عنواناً فضفاضاً بلا مضمون، فيما اقتصرت قرارات الحكومة بخصوصها في الامتناع عن تسديد استحقاقات دين السندات بالعملات الأجنبية عشوائياً وبعيداً عن أي خطة مدروسة تنظم عملية الامتناع عن الدفع وتستلحق تداعياتها ومخاطرها على لبنان مستقبلاً.
التعيينات في المراكز المالية مطلب من طموحات رئيس «التيار العوني» الذي عمل سراً وعلانية على تحقيقه
استبقت الحكومة ترحيل إنجاز ما سمته خطة الانقاذ إلى شهر أيّار المقبل، بتبني الخطاب التهجمي للتيار العوني ضد «الحريرية السياسية» الممجوج في تصرّف مستغرب لم يكن له مبرر مقبول سوى اصطفاف رئيسها إلى جانب الفريق العوني، لاخفاء عجزه عن تنفيذ ما وعد به اللبنانيين من خطوات وإجراءات ملموسة لحل الأزمة الضاغطة والتحجج زوراً بالسياسات التي اتبعت سابقاً وما إلى هنالك من ذرائع واهية، فيما ملامح التفاهم السياسي والتناغم، كانت السِمة البارزة التي تغلف هذا التحوّل المبكر في مواقفه ضد «الحريرية السياسية» التي لم تبادر في وقتها إلى تسديد أي إنتقاد اعتراضي ضده بالرغم من العثرات والتخبط في المسار الحكومي بمجمله.
ولوحظ كذلك ان ترحيل خطة الانقاذ ترافق في الوقت نفسه مع تجاهل الحكومة كل متوجبات والتزامات تسريع الخطى للمباشرة بإجراء سلّة من الإصلاحات الضرورية والاساسية التي ترتكز عليها خطة الإصلاح، والملحوظة في أي برنامج مساعدات من قبل صندوق النقد الدولي تحديداً ومن ضمنها اتخاذ الخطوات السريعة للمباشرة بقطاع الكهرباء أولاً لما لهذا الاجراء من مفاعيل إيجابية داخلية وعلى صعيد تشجيع المجتمع الدولي لتسريع خطى مساعدة لبنان مادياً ومعنوياً ليتجاوز أزمته المتدحرجة، ومع الترحيل المفاجئ لخطة الانقاذ وتجاهل سلّة الإصلاحات المطلوبة تحت غطاء الانشغال بأزمة «كورونا» وتداعياتها، فجأة قدمت الحكومة مسألة التعيينات المالية إلى الواجهة ووضعتها على طاولة مجلس الوزراء دون سواها، الأمر الذي اثار ملاحظات واهتمامات أكثر من طرف سياسي، كون طرح التعيينات في هذه المراكز المالية وهو مطلب ملّح ومن طموحات رئيس «التيار العوني» جبران باسيل الذي لطالما عمل سراً وعلانية علي تحقيقه، ولم يكن ممكناً تناول هذا الموضوع حالياً، لو لم يكن هناك تفاهم سياسي مسبق بخصوصه مع رئيس الحكومة، الأمر الذي عزّز فيما بعد حدوث هذا التفاهم غير المعلن بين الجهتين بالرغم من محاولة الأخير التنصل من صيغة المحاصصة التي طغت على مسودة هذه التعيينات ووزعت بالتساوي بين الأحزاب والجهات السياسية الداعمة للحكومة خلافاً لكل الادعاءات المغايرة.
هذه الوقائع المتسلسلة تدلُّ بوضوح على تحوّل الحكومة من حكومة «تكنوقراط» لإنقاذ لبنان من الأزمة المالية المستفحلة، إلى حكومة تتقاسم السلطة والنفوذ كأي حكومة سياسية تقليدية أخرى، مباشرة أو بشكل غير مباشر، وانها تستغل انشغال اللبنانيين بمخاوف انتشار وباء «كورونا» واعبائها المتعددة الجوانب وتهمل مطالبهم الملّحة لتحقيق هذا الهدف الذي انكشف على حقيقته بفعل الصراع السياسي على توزيع مراكز النفوذ في الوظائف المالية المهمة في الدولة والسباق المحموم على الاستحقاق الرئاسي المقبل.
كان الأجدى لرئيس الحكومة حسان دياب تجنّب الانزلاق إلى تبني مفردات «التيار العوني» المفبركة ضد خصومه السياسيين والسير قدماً في اعداد برنامج الخطة الإنقاذية الموعودة والمباشرة بتنفيذ سلّة الإصلاحات ولا سيما في قطاع الكهرباء وتكليف لجنة موثوقة للبتّ في مستقبل هذا القطاع بدل تكريسه مجدداً ووضعه في عهدة رئيس الجمهورية بعدما فشل «التيار العوني» فشلاً ذريعاً في إدارة هذا القطاع منذ ما يقارب العشر سنوات وعدم الخوض في موضوع التعيينات المالية قبل إنجاز البرنامج المذكور، ولكانت الحكومة حازت على ثقة كبيرة لدى اللبنانيين ولنزعت عنها كل مكامن التماهي والتفاهم والانغماس في تقاسم السلطة والمشاركة في المحاصصة التي تبدت في مشروع التعيينات الذي وضع على جدول أعمال مجلس الوزراء ومن ثم عاد رئيس الحكومة وسحبه من الجدول بعد عاصفة الخلافات السياسية التي كادت ان تشلَّ عمل الحكومة.
والاهم من كل ذلك لو التزم رئيس الحكومة بهذه الأمور لكان تجنّب الانتكاسة التي لحقت بالحكومة جرّاء فشلها بالبت بمشروع التعيينات وقبلها انتكاسة سحب مشروع قانون «الكابيتال كونترول» وانتكاسة إعادة المغتربين الراغبين إلى الوطن وغيرها، ولكن يبدو ان اغراءات تقاسم السلطة تقدمت على ما عداها.