كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
العيد بلا معمول مثل الزهرة بلا عبير، مثل النهار بلا شمس، مثل المطبخ بلا “ست”، مثل العالم مع كورونا… وفي الموازاة، مع دنو العيد وتدحرج الصخرة عن القبر وقيامة يسوع تنهمك نساء كثيرات في صناعة معمول العيد “للبيع”. نساء كثيرات وجدنَ مهنة في زمن الحجر والفقر والملل فأصبحنَ: صانعات معمول من المنازل “يأكلنَ ويطعمنَ” ويواجهنَ الزمن البائس بالأطايب.
كثيرة ٌ هي الإعلانات عبر “السوشيل ميديا” عن “مطابخ الستات” في زمن العيد والمعمول: مطبخ الأم الحنون، مطبخ أم توفيق، مطبخ ماجدة، مطبخ نسرين، مطبخ لوسي وليلى ونجوى ومديحة ومطبخ “الجارات” و”الكناين” و”امرأة العم”… فهل اختارت كثيرات من النساء مهنة الطهي في الوقت الضائع؟ وهل “معمول العيد” البداية؟ وهل صحيح أن عنونة إعلان “معمول بيت” يجذب ألف مرة أكثر من إعلان “معمول فلان أو علتان” من أصحاب الأسماء الرفيعة؟ وماذا عن أسرار النساء في إعداد المعمول؟
ينتظر الصغار “على نار” انبعاث رائحة السمن وماء الزهر والورد من البيوت. ليلى باسيل، الزوجة والأم والجدة، كانت تعمل موظفة محاسبة، طوال ثلاثين عاما، ويوم فقدت عملها توجهت الى مطبخها وانطلقت في مهنة تحتاج الى الحب الكثير مع العمل الكثير وهي تكرر، كما الأسطوانة: شغل البيت فيه بركة ومعمول العيد في البيت بركة. لكن، كيف أتتها الفكرة؟ تجيب: اشتغلت على نفسي كثيراً، تلفزيون وشيف أنطوان وفتافيت وكتب ويوتيوب، وجربتُ كل الأطباق في البداية “بزوجي وولادي ومشي الحال”.
الضيق يولّد الأفكار والأفكار العظيمة تنتج أعمالا عظيمة. وعظمة نساء كثيرات أنهن لم يستسلمن لا لاقتصاد البلد المهترئ ولا لفيروس كورونا الخبيث ويواجهن من مطابخهن، بملاعق خشبية وبدفقٍ من التصميم والإصرار. لوسي سمور، من تنورين، درست في الفندقية وكأنها استبقت الفاقة الإقتصادية وقررت أن تعمل منذ عامين، من البيت، في إعداد الطعام والحلويات وها هي مشغولة اليوم في إعداد “معمول البيت”. وسرّ معمول لوسي خلوّه من أي صبغة وسكر معتدل ووضع “حبة البركة” في العجين. وزبائنها يعودون إليها حين يقررون شراء المعمول لذا تضع أيديها، لجهة البيع، في المياه الباردة، مع يقينها أن أحوال الكثيرين باتت عدماً ولن يستطيع كلّ الناس أن يشتروا إلا “بركة العيد”.
نجول “فيسبوكيا” عبر صفحات المحال التجارية التي تتنافس (على ما تقول) في الأسعار. وأسعارها “نار”. كيلو طحين الفرخة بألف و700 ليرة. كيلو سميد خشن يتراوح بحسب إسم المنتج بين 1350 ليرة و2250 ليرة. 180 غراماً من الفستق الحلبي بسعر 12 ألف ليرة كحدّ أدنى. ويبدأ سعر 500 غرام من الجوز بستة آلاف ليرة. باكيت التمر باب أخير 5500 ليرة. والناس “تركّ” على التمر. والمتسوقون، وخصوصا المتسوقات، يصرخون كلما دنوا من سلعة من مكونات المعمول: أووووف! لكنهم يعودون ويشترون.
الستّ نجوى تصنع من بيتها “بركة العيد” وتبيعها بسعر مخفوض وتقول: بصراحة، هذه أول مرة أبيع المعمول وفكرت بذلك لسببين، الأول، الوضع الإقتصادي والحجر، والثاني أنني أعاني من مشكلة حساسية مع القمح وطلب مني الطبيب الإمتناع عن تناوله كلياً. وهذا ليس سهلا في لبنان حيث نفتقر الى المنتجات الخالية من الغلوتين أو نواجه إرتفاع أسعارها. فكرت وقررت في هذا العيد صناعة المعمول الخالي من القمح والسميد والطحين واستعيض عن تلك المواد بالشوفان والعسل وبالمنتجات الصحية. مطبخي مجهز لكني لم أشترِ مكونات المعمول بكميات كبيرة خوفاً من أن “فوت بالحيط” لأن وضع العالم، غالبية العالم، سيئ.
نجوى أجرت أبحاثا كثيرة وتدرك أن العمل الذي تضع فيه من قلبها ينجح لذلك تتعامل مع كل قطعة معمول وكأنها تحفة. تعاونها بنات شقيقتها. وتقول: كانت النساء يخجلنَ من القول نعمل في الطهي وبيع مأكولات البيت أما اليوم “فما عادت فرقانة مع حدا شي” لأن الحاجة باتت كبيرة.
نعود الى ليلى، الست ليلى، التي تمكث في مطبخها ثلاثة أرباع يومها ولقمتها أشهى من “لقمة” أهم الأسماء التي نعتبر أصحابها رواداً في الطهي. فلقمتها “لقمة أم” وما أدرى البشر بلقمة الأم. لكن، مع المحبة التي تضعها في الطبق ماذا عن أسرار معمولها؟ تجيب بحسم: النظافة. لا أدخل الى مطبخي من دون غطاء على الرأس وقفازات في اليد ووزرة على الخصر. وأصنع المعمول لزبائني كما أصنعها لبيتي. ومن جرّب مرة يعود في كلّ مرة. فزبائني يقولون عن المعمول الذي أصنعه: شهيّ جداً.
ماذا عن إرتفاع الأسعار اليوم؟ هل أجبرت ليلى ونجوى ولوسي وأم توفيق وكل إمرأة تمتهن “صناعة المأكولات” اليوم في بيوتهنّ على رفع أسعار دزينة المعمول مثلا؟ تجيب ليلى بكلمة أكثر من معبرة: واووووووووو…. ما فيي خبرك عن الأسعار. سعر كيلو الفستق الحلبي كان العام الماضي ثلاثين ألفاً لكني اشتريته هذه السنة بسعر 55 ألفاً. “دوبل”. شو بدي خبرك لخبرك. وتُسهب ليلى في تعداد الأسعار، لكن كم أثّر هذا على سعر دزينة المعمول؟ وهل تدنى طلب المعمول بالفستق؟ تجيب: أصبح الناس يطلبون أكثر المعمول المشكل. أبيع أربعة أصناف معا، من 32 قطعة، القطعة الواحدة “كدشتين” أو ثلاثة، وتتكون من الجوز والتمر وفستق الحلبي وسمبوسك اللوز. سمبوسك اللوز يتطلب جهدا كبيرا. وسعر الكيلو 45 ألفاً وبعته الى عيَل، من زبائني، بأقل بكثير. ومن يقول أنه غير قادر على الدفع أعطيه بسعر الكلفة، أو حتى أقل من سعر الكلفة، بثلاثين ألفاً “فالمادة ما عادت مشكلة”.
ليلى تقدم الحلويات، أو كانت تقدمها أسبوعياً قبل كورونا، الى بيت الضيافة كل ثلاثاء وخميس، وأكثر ما كانوا يحبون هي الحلويات العربية القديمة مثل صفوف بدبس ونمورة وكعك بحليب. وهل تطورت المعمولة عبر السنين؟ ليلى أدخلت العام الماضي الكاجو وصنعت “المعمول بالكاجو” لكنه لم يلق إعجابا من المتذوقين. وهي تصنع الى المعمول صفوف خاصة بالعيد من السميد وتضع على وجهه السمسم واللوز. هذا هو صفوف العيد الذي يعرفه أهل القرى.
أهم الطهاة في البلد رجال، أما النساء “سيدات” البيوت فيلعبنَ اليوم لعبة إستعادة مهنة إعداد الطعام المخصص للبيع. أحمد الكعكاتي، إبن صيدا، يعدّ هو أيضا أشهى “الكعكات” لكن الأحداث أثرت عليه وجعلته يبيع على الطلب. واليوم (أمس) إشترت منه “ليبان تروك” 300 كعكة لتوزيعها على الفقراء. ويقول: كان كعك كعيكاتي في صيدا أشهر من “نار على علم” وسرّه المحلب ومادة “المحسن” والسمنة الذهبية. وهو يصنع أيضا، مثله مثل كلّ النساء اللواتي يمتهنّ في هذه الأيام الصعبة العمل بإعداد الأطعمة، “معمول العيد” على الطلب.
نتابع أخبار النساء اللواتي ينهمكنَ اليوم في إعداد المعمول ويتفننّ في هذا الوقت الصعب في مطابخهنّ. نهى تُعدّ المعمول بالحلقوم. وأم زوزو تعدّ المعمول بلا حشوة. والست روزيت وأصلها فلسطيني تعدّ كعكة العيد الفلسطينية مع التمر واليانسون و”دقة الكعك” والقرفة والفانيلا والسمسم. أما أم بسام التي عاشت طويلا مع زوجها في مصر فتتفنن في هذا العيد بصناعة المعمولة المصرية مع الملبن وعين الجمل والسمن البلدي والسمسم والتمر.
النساء، في هذا الأسبوع، كما بعض الرجال منهمكون في ما يسلي ويملأ البطن قليلاً من الجيوب الفارغة. يا عيد في أيّ حال تعود؟ لكن، كما يقال من زمان وزمان: اللبناني، واللبنانية بالأخص، شطار.