كتبت سناء الجالك في صحيفة “نداء الوطن”:
لا صوت يعلو فوق صوت الطبيعة. ما أن أنقذها فيروس “كورونا” من جور البشر، حتى سارعت للإحتفال. وانفجرت بربيع مفعوله أشرس من مفعول الفيروس. وها هي تتنفس بعد أن تخلصت من كل التلوث الذي فتك بها مدى القرون المتلاحقة. وتتلذذ بما تسبب به منقذها من اعتقال جماعي لأعدائها الذين نكلوا بها وسع الكرة الأرضية.
فنحن وجهود علمائنا، لا نزال أضعف من الفيروس الذي تحالف مع الطبيعة ضدنا. هما معاً يستفردان بكل ما هو خارج الجدران التي تحجرنا. هما يعيدان ترتيب الكوكب.
هما يتحديان كل ما ارتكبه البشر بحق هذا الكوكب. وليس مستبعداً ان يعود مجرى الماء الضحل الذي أرمقه من نافذتي نهراً متدفقاً. لا شيء سيمنعه ما دام الفيروس حليفه ضد سعي البشر لسحب مياهه وبيعها، وضد النفايات التي لطالما كدسوها في مجراه وضد السموم التي رموها فيه ليقتلوه من دون ان يرف لهم جفن.
نسينا وظيفة النهر. نسينا أنه مصدر ارتوائنا. كان حمامنا الأول وغسالتنا الأولى ولهونا المنعش. قبل أن تستفحل كبائرنا لنغتاله. كان يكفينا ومن دون منة السدود المفتعلة للسمسرة.
وعندما نرمق تدفق مياهه هذه الأيام، نسمعه يخرخر:عودوا إلي ليعود إليكم أمانكم الصحي، فنعده ونعد أنفسنا بلقاءٍ عندما ينزاح عنا اجتياح “كورونا”.
لكن الطبيعة لا تصدقنا. تعرفنا جيداً. وتعرف كيف تشمت بنا وباعتدادنا بما ابتدعناه وصولاً إلى الذكاء الإصطناعي. وتسخر من استغلالنا لكل مرافق التطور نطوِّعها في سوق العرض والطلب. بالتأكيد هي تفعل. تقول لنا بالفم الملآن: يا من عثتم بالأرض فساداً إقبعوا سجناء مكدسين في بيوت هي أشبه بالعلب. إحجروا أنفسكم داخل الجدران التي فضلتموها على المدى. إدفعوا كلفة الكثافة البشرية في أقل قدر ممكن من الكيلومترات المربعة بغية الإستثمار. إتركوا الأرض لمخلوقاتها من الاجناس الأخرى.. حيوانات وشجر وعشب وزهور تنمو على سجيتها من دون سمومكم للعبث بمواسمها.
الطبيعة تقترب من حجورنا، فقط لتنظر إلينا بتحدٍ، وتقول لكلٍ منا: هل تجرؤ على الخروج من حجرك ومواجهتي؟؟ لن تجرؤ بالتأكيد.. عليك اللعنة، ولنا مباركة الكورونا التي اعادتك حشرة.. دودة باطون.. لأنك لم تُقَدِّر نعمة السير على سطح الأرض والتمتع بما أغدقته الطبيعة عليك وعلى أمثالك من المخلوقات العاقة. ابق دودة.
ربما تتحول هذه الكرة الأرضية الى غابة مترامية الأطراف تلف مداراتها. وتلف أشجارها علب الباطون التي نقبع خلف جدرانها، أو تتسلل الينا أغصانها من النوافذ الضئيلة التي أبقينا عليها. قد ينتهي دور إسفلت الطرق، وتتحول السيارات الفخمة الى خرضوات لا فائدة منها ولا وظيفة لها. قد ينسى الأطفال وجود طائرات. فكل ما يطير في سماواتنا هذه الأيام لا علاقة له بالمكننة والمدنية.
قد يصبح فتح الباب وتخطي العتبة أصعب من أن نرمي بأنفسنا الى النار او ان نقفز من برج عالٍ.
قد نكون في بدايات الإبتعاد الاجتماعي، لأننا لا نعرف ماذا سيحل بالكوكب، والى أي مدى يمكن للفيروس أن يصول ويجول ويتنقل ولا يعبأ بمن يسعى الى ردعه. ويحاول بخبث اكتساب مناعة للبقاء على قيد الحياة ومواجهة كل محاولات القضاء عليه. ومن ثم يطور خلاياه ليصبح أقوى وأصلب وأكثر حضوراً في هوائنا ويتسلل الى حيث نختبئ، ساخراً من كل العبقرية والعلم والتكنولوجيا والمختبرات والعقاقير. ويجهض جهود العلماء الذين سلمنا اليهم مقاليد حاضرنا ومستقبلنا، وانبهرنا بهم.
ولكم أن تذهلوا أو تحبطوا اذا اكتشفتم أن نبوءة كوكب القرود تتحقق. ليس بالضرورة أن تكون القرود هي المسيطرة، قد تصبحون عبيداً في كوكب الكلاب أو الهررة أو الطيور أو الثعالب. ماذا عن كوكب الدينوصورات؟
قد نكتفي بأشهر الصيف من كل عام لنحظى بشيء من الحياة الطبيعية، لنعود ونتوارى كما الدببة مع حلول الخريف.
لكننا نحاول استبعاد الأسوأ، ونعد أنفسنا بأمور كثيرة. نتلو أفعال ندامة. بوجود السيد “كورونا” ليس لدينا الا نبش دواخلنا وإعادة ترتيب فوضاها بانتظار انسحابه الى حيث لا ندري.
أم أننا حين ينسحب، سنعلن انتصارنا عليه، وننسى كل وعودنا ونعود الى التنكيل بهذه الطبيعة التي تواطأت مع “كورونا” لتتطهر من وسخنا؟.
الأرجح أننا سنفعل.. ويحنا..