كتب نجم الهاشم في صحيفة “نداء الوطن”:
بعد خمسة وأربعين عامًا يبقى تاريخ 13 نيسان 1975 كأنّه يوم أمس الذي عبَر. على الرغم من كثرة التواريخ المفصلية التي كانت قبله أو أتت بعده إلّا أنّه يظلّ الأول في التراتبية والرقم الذي يبنى عليه. قبل 13 نيسان شيء وبعد 13 نيسان شيء. هكذا ربّما يتم تحديد أهمية الأحداث في روزنامة الأيّام اللبنانية. حتى البوسطة، بوسطة عين الرمانة صارت رمزاً مرادفاً لخطر اندلاع حرب جديدة.
13 نيسان 1975 كان نتيجة حتمية لما اعتمَل في النفوس وكان بداية لتواريخ كثيرة مشابهة ولحروب ومعارك حملت أسماء كثيرة وعناوين كثيرة ودارت على أرض لبنان وزرعت الخراب والدمار ولكنّها لم تنتج العبر والندم والدروس.
من هنا لا تعود القاعدة صحيحة. 13 نيسان لم يكن البداية. كما لم تكن له نهاية بعد. من غير الصحيح أيضًا القول أن 13 تشرين الأول 1990 ،عندما تم إنهاء ظاهرة عصيان العماد ميشال عون في بعبدا، كان نهاية الحرب. تلك “الحرب” لم يكن لها بداية وواقع الحال يقول أنه ليس لها نهاية بعد.
أحداث 1958 من يتذكر؟
عندما نتذكر أحداث 1958 يتم الحديث عنها بشكل عام. تاريخ اندلاعها في 7 أيار من ذلك العام لا يتذكره كثيرون. لم يحفر عميقًا في الذاكرة كتاريخ 13 نيسان. حتى أن تاريخ انتهائها ليس متداولًا مع أنه ترافق مع حدث كبير تمثل في إرسال قوات المارينز الأميركية إلى لبنان. هذا الحدث لم ينه الحرب. ولكنّه ساهم في صناعة الحلّ عبر التفاهم مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية. إذا كان الدخول الأميركي على خط الأزمة اللبنانية في تلك الأحداث على خلفية تطبيق مبدأ إيزنهاور ومساعدة الدول التي يتهدّدها الخطر الشيوعي وإذا كان النظام المصري بعد الوحدة مع سوريا وبعد الإنقلاب الذي أطاح النظام الملكي في العراق وأُسُس حلف بغداد هو الذي كان يتهدّد النظام في لبنان وعهد الرئيس كميل شمعون فلماذا كان المخرج عبر التفاهم معه؟
حلّ 1958 أسّس لما كان في 13 نيسان 1975. بعد عشرة أعوام فقط كان عبد الناصر يمون على السلطة في لبنان من أجل تأمين العمل الفلسطنيني المسلح ولم يكن لبنان قادراً يومها على رفض توقيع اتفاقية القاهرة في العام 1969.
عندما حصلت أحداث 1958 لم يكن هناك كفاح مسلح فلسطيني بعد على أرض لبنان. بعد عشرة أعوام على نكبة فلسطين في أيار 1948 وتهجير الفلسطينيين إلى لبنان كانت المخيمات الفلسطينية تحت الضبط الأمني. كان السلاح يأتي من سوريا ويوزع على اللبنانيين الراغبين بتغيير النظام وإلحاق لبنان بنظام الوحدة الذي صنعه عبد الناصر الأمر الذي كان يعني نهاية الكيان اللبناني والفكرة اللبنانية التي بني عليها إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920. بعد عشرة أعوام تغيّرت الأحوال. عندما انهزمت الأنظمة العربية أمام إسرائيل في حرب حزيران 1967 تخلّت هذه الأنظمة عن مهمّة استعادة فلسطين وتحريرها وتنازلت عن هذا الدور لتحيله على الفلسطينيين أنفسهم بعدما كان ياسر عرفات أعلن عن تأسيس حركة فتح في مطلع العام 1965 قبل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لاحقًا. لولا دعم عبد الناصر لما كانت ربما أحداث 1958 ولولا التغطيات العربية والغطاء الذي أمّنه قسم من اللبنانيين للسلاح الفلسطيني وضعف السلطة اللبنانية لما كانت حرب 1975.
بين الموت قتلا أو استشهادا
في ايار 1973 اندلعت الحرب بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية ولكن التدخل العربي أوقفها وأجّل تحويلها إلى حرب كبرى. منذ ذلك التاريخ عادت عوامل التفجير الكبير تعتمل داخل الجسم اللبناني. بعدما شعر المسيحيون أن الدولة التي كانو الأساس في قيامها لم تعد قادرة على حمايتهم اتجهوا مجددًا إلى الدفاع عن أنفسهم وعن هذه الدولة. تلك المهمة كانت صعبة وكبيرة ومعقّدة ولم يكونوا قادرين على احتمالها لأنها كانت أكبر منهم ولكنّهم كانوا أمام خيارين: الموت قتلاً أو استشهادًا فاختاروا الثاني. لم يكن القتال خيارهم بل قدرهم الذي كان عليهم أن يواجهوه. هكذا كان انطلاق الحرب في 13 نيسان 1975 مجرّد تاريخ كان يمكن أن يكون قبل 13 نيسان وكان يمكن أن يكون بعده. تلك البوسطة التي مرت في عين الرمانة ذلك اليوم صارت هي الحدث والتاريخ الأسود. وتلك الحرب كانت أكبر من كل الذين شاركوا فيها معتقدين واهمين أن بإمكانهم تحقيق النصر.
الفلسطينيون خسروا. والمسيحيون خسروا والسوريون خسروا والإسرائيليون خسروا. لم تكن هناك حرب واحدة بل حروب متقاطعة تحول فيها الأعداء إلى حلفاء والحلفاء إلى أعداء وتبدلت فيها خطوط الإنقسامات والتماس والمحاور. قاتل الفلسطينيون المسيحيين وتقاتلوا بين بعضهم. حالف رئيس النظام السوري حافظ الأسد الفلسطينيين والحركة الوطنية ثم قاتلهم. وقاتل المسيحيون دفاعًا عن أنفسهم وعن لبنان وتقاتلوا. اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان أكثر من مرة وانسحب. انقسم الجيش اللبناني أكثر من مرة ثم عاد ليتوحد. تحالف خصوم التنظيمات المسيحية وتصارعوا.
ليست مجرد بوسطة وطريق
في 13 نيسان لم تكن المسألة تتعلّق بالطريق الذي سلكته البوسطة التي كانت تنقل مسلحين فلسطينيين داخل أحد شوارع عين الرمانة. ولا كانت تتعلّق أيضًا بما حصل قبل ساعات من ذلك العبور أمام كنيسة سيّدة الخلاص في القداس الذي كان يحضره رئيس الكتائب الشيخ بيار الجميل واستشهاد جوزف أبو عاصي. بعد خمسة وأربعين عامًا ربّما لا يزال البعض يسأل عن سبب مرور تلك البوسطة من هناك وهل كان الأمر مدبرًا. لو لم تكن البوسطة في ذلك اليوم في عين الرمانة كانت ستبدأ الحرب من مكان آخر. بعده صارت كل حرب تسلم السلاح لحرب أخرى كأننا منذ ذلك التاريخ في مشاهد متفرقة من حروب لا تنتهي.
ليست مسألة بسيطة أن تعيش كل يوم في ظلال 13 نيسان وأن تعتقد كل يوم أن هناك 13 نيسان جديداً وأن كل يوم يمكن أن يكون 13 نيسان. عندما دخلت تلك البوسطة إلى عين الرمانة كانت النفوس المشحونة كفيلة بإخراج البنادق من مخابئها لأن الكرامة كانت تأبى الذل والإنكسار. قليل من الكرامة كان يكفي لصناعة حرب. لم يكن من خيار أمام أبناء عين الرمانة إلّا أن يدافعوا عن أنفسهم وعن لبنان. ولكن ثمن تلك المعركة كان كبيرًا وكبيرًا جدًّا.
حروب تتوالد
كان من المقدر أن يكون هناك أكثر من موعد لنهاية الحروب ولكن دائمًا كان هناك موعد مع بداية جديدة لتولد حرب بثياب مختلفة وبعناوين مختلفة. بعد اتفاق الطائف كان المطلوب أن تنتهي الحروب ولكنها استمرّت. من حرب الإلغاء إلى حرب 13 تشرين. بعد عودة رئاسة الجمهورية إلى بعبدا بقيت سلسلة من الحروب التي لم تنته. من حرب تموز 1993 إلى حرب نيسان 1996. ومن معارك جرود الضنيّة في نهاية العام 1999 ومطلع الألفيّة الثانية إلى الإنسحاب الإسرائيلي من الجنوب في ايار 2000. ومن اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 إلى انتفاضة 14 آذار 2005 ردًّا على حركة 8 آذار المطالبة ببقاء جيش النظام السوري في لبنان. ومن حرب عهد الوصاية السورية ضد القوات اللبنانية واعتقال رئيسها سمير جعجع إلى خروج جيش النظام السوري من لبنان في نيسان 2005 وخروج جعجع من الإعتقال في 26 تموز. ومن حرب تموز 2006 بين حزب الله وإسرائيل إلى عملية 7 أيار 2008 التي نفّذها حزب الله في بيروت والجبل على قاعدة أن السلاح يحمي السلاح. ومن حرب نهر البارد التي خاضها الجيش اللبناني ضد تنظيم فتح الإسلام طوال صيف 2007 إلى معارك فجر الجرود لتحرير جرود القاع وراس بعلبك من فصائل المنظمات الأصولية الإرهابية المعارضة للنظام في سوريا صيف العام 2017. ومن معركة إنهاء ظاهرة الشيخ أحمد الأسير في عبرا في حزيران 2013 إلى معارك عرسال بين الجيش اللبناني والإرهابين في آب 2014 مرورا بمعارك محاور طرابلس بين جبل محسن وباب التبانة. كلها حروب في السلسلة التي لا تنتهي والتي يكمِّلها استمرار حزب الله بالتمسّك بسلاحه ومشاركته في الحرب في سوريا وتدخّله في اليمن والعراق وأكثر من ساحة.
ثورة 17 تشرين 2019 كان يمكن أن تشكل بداية خروج من هذه السلسلة. ولكن هذه البداية لم تكتب بعد. يمكن أن تتكرر المحاولة أكثر من مرة. ثمة حرب ضد الكورونا على رغم خطورتها ولكنها لم تستطع أن تمحو آثار الحروب التي كانت انطلقت ذات يوم في 13 نيسان وتولدت حروبا كثيرة على أرض واحدة. حتى تأتي تلك اللحظة سيبقى 13 نيسان التاريخ الذي لا يتقاعد ولا يشيخ.