كتب نبيل هيثم في صحيفة “الجمهورية”:
لنفرض أنّ الفيروس الأول الذي انتقل في أحد أيام الخريف الماضي، إلى أول شخص في مدينة ووهان الصينية، قد تمّ رصده واحتواؤه سريعاً. ولنفرض أيضاً أنّ الشارع الذي انفجر غضباً في لبنان في17 تشرين الأول الماضي، قد أعطى حكومة حسان دياب فرصة استكمال فترة المئة يوم التي حدّدتها لنفسها منذ تشكيلها لإنقاذ الوضع الاقتصادي المنهار… فما الذي كان سيحدُث؟
من المؤكّد أنّ كل شيء كان سيمضي بدقّة، وفق نهج عقلاني، مشابه لما حدث ليل السابع من آذار، يوم اتخذت الحكومة اللبنانية الخيار المنطقي بتعليق دفع سندات «اليوربوندز»، والذي كان من بين أسبابه الموجبة المعلنة تلك السردية التي لا تكلّ الجهات الحكومية المعنية بالملف الاقتصادي من ترديدها: «عدم المس بحقوق المودعين».
اليوم، تمارس الحكومة الشيء ونقيضه. تكرّر السردية ذاتها بشأن «حماية حقوق المودعين»، و»تبشّر» بالاقتطاع منها، وفق «مجزرة الهيركات» المتجدّدة.
ثمة سؤال آخر متفرّع من هذه الفرضية؛ هل كانت حكومة حسان دياب ستجرؤ على مجرّد النطق بعبارة «هيركات» في زمن غير زمن «كورونا»؟
من المؤكّد أنّ الإجابة هي بـ»لا». فإذا كان الوسط السياسي في لبنان قد أجمع على رفض الاقتراح – ولو على خلفيات متباينة – فكيف بالمواطن العادي الذي اندفع إلى الشارع قبل أشهر، محيّداً كل هواجسه السياسية للدفاع عن لقمة عيشه، وهو يرى جنى عمره المدخَّر قد بات تحت مقصلة ذهنية اقتصادية حاكمة منذ سنوات طويلة، لم تتعلّم دروس 17 تشرين، وهي مستمرة في تحميل الفقراء ومتوسطي الحال تبعات الأزمات المتلاحقة، لتضعهم بين خيار من اثنين: إمّا أن تعوّضوا على البلد السرقات التي ارتُكبت بإسم الهندسات المالية التي ذهبت مكاسبها لقلّة حاكمة ومتحكّمة، وإما أنّ اعناقكم ستصبح في قبضة الصناديق الخارجية الوصفات المالية الكارثية.
يقود ذلك ايضاً، إلى سؤال آخر، مشروع في ظل ما يُطرح من أفكار اقتصادية؛ هل أنّ الحكومة اللبنانية تحاول الاستثمار اليوم في «كورونا» لتمرّر في ظل «حالة التعبئة» ما لا تستطيع تمريره في ايام الانتفاضة الشعبية؟ وهل هي قاصرة النظر بالفعل للرهان على «الحَجر المنزلي» للذهاب إلى خيارات غير شعبية ضد مواطنين يغلون اليوم في منازلهم، في حال خُيّروا بين فيروس مجهري يقتل 2 أو 5 في المئة من المصابين به، وبين إجراءات حكومية لا تقلّ فتكاً عن «كورونا»؟
مع بدء العد العكسي لفترة المئة يوم التي وردت في البيان الوزاري – اذا ما سلّمنا بأنّ العمل الحكومي غير مشمول بـ»حالة التعبئة العامة – ما زالت حكومة حسان دياب عاجزة عن التقدّم باتجاه تحقق المأمول منها، ولو بالحدّ الأدنى.
كل ما في الجعبة الحكومية هو استخدام التوصيفات الدقيقة للأزمة – وهو أمرٌ يُحسب لها – ولكنها لا تزال تدور في حلقة مفرغة من الاجتماعات المتتالية، تبدو عاجزة عن كسرها، ولو بخطوة إصلاحية واحدة ملموسة، كترجمة لبعض من الأهداف الكبيرة الي حدّدتها في بيانها الوزاري قبل شهرين.
هذا الدوران بات نمطاً لا يأخذ في الحسبان أنّ هوامش اللعب بالوقت باتت معدومة، منذ اعلن لبنان تخلّفه عن سداد الديون الخارجية، وأنّ كل يوم يمرّ يفاقم الأزمات، سواء الأزمات السياسية، التي استعادت معها الحكومة الحالية نمط «الوزراء المعارضين»، وبدأت تفرز تحالفات جديدة تضع علامات استفهام حول إمكان صمودها، فيما الأزمات الاقتصادية – الاجتماعية، ومعها السياسية، يتراكم فيها الغضب المحجور في المنازل بسبب إجراءات العزل من «كورونا».
ضمن هذا السياق يأتي التأخير في إجراء الإصلاحات المطلوبة، مالياً وادارياً وقضائياً، التي يعلم الجميع أنّها كانت الشرط الأساسي لحصول لبنان على الدعم المالي. وإذا كان من الممكن الالتفاف قليلاً على هذا الشرط قبل أشهر، وفق منطق «الشطارة» اللبنانية، الاّ انّ هامش «الشطارة» هذا، ينعدم اليوم، في الوقت الذي يواجه الاقتصاد العالمي أخطر التحدّيات بسبب الجائحة الوبائية، التي تجعل اهتمامات المانحين في مكان آخر بعيداً من «الصداع» اللبناني، وهو ما يعني أنّ شرط الإصلاحات بات جامداً او بالأحرى مجمّداً، بما فيه الكفاية لكي تبادر الحكومة إلى تحقيقه.
لا تبدو الحكومة اللبنانية مدركة لهذا الواقع الجديد، وهذا ما تشي به كل تحركاتها، ابتداءً من ملف التشكيلات القضائية، التي تُعدّ المفتاح التي وُعد به اللبنانيون قبل أشهر لمكافحة الفساد، إلى التعيينات المالية، التي اسقطها منطق المحاصصة تحت عنوان اعتماد آلية توظيف على أساس الكفاءة، لتأتي التعيينات الأخيرة مناقضة لهذه الآلية، وصولاً إلى الخطة الاقتصادية، التي دخلت في لعبة التسريب وجس النبض، بدلاً من أن تكون مدخلاً لحوار وطني.
الفرصة لم تفت بعد. التمسّك بالثوابت الأساسية، وفي طليعتها الحماية الفعلية لحقوق المودعين، والحوار البنّاء للخروج من واقع لن يميّز بين موالٍ ومعارض، طالما أنّ الانهيار يطال الجميع، هما الركيزة لأية خطة انقاذ بدلاً من حالة التأزّم المستمرة، والمتصاعدة يوماً بعد يوم، والتي بلغ معها الاشتباك الوجهة القصوى، في ظل التباعد في وجهات النظر والرؤى، حتى داخل الفريق الواحد، لسبل المعالجة.
لا تستطيع الحكومة، ولن تستطيع، أن تواجه العبء الموروث نتيجة لسياسات مدمّرة تعود إلى ثلاثين عاماً، من خلال اللجوء الى خطوات جراحية موجعة، لشعب يعيش اليوم هاجسين صحي ومعيشي، أو من خلال القاء الكرة في ملعب الآخرين، بما يخفي عجزها عن مواجهة التحدّيات.
هذه الحلقة المفرغة لن تُكسر بالـ»هيركات»، الذي يبدو أشبه بعقاب جماعي، يطال الصالح قبل الطالح، ليكون سيفاً مصلتاً على المواطنين العاديين، طالما أنّه لم يعد خفياً أنّ كبار المودعين المحميين سياسياً، قد هرّبوا اموالهم وارباحهم الى الخارج.
الحل الوحيد يكمن في الإنطلاق من التوصيف الدقيق للأزمة القائمة، الى محاولة الإفراج عن آليات المعالجة، المحبوسة في دهاليز اللعبة السياسية والسياسات المالية، إلى جانب ملفات الفساد والتربّح غير المشروع المركونة في المحاكم. وهي آليات شعبية بديلة للإجراءات غير الشعبية والمؤلمة التي تشهرها الحكومة في وجه الناس، ومدخلها التوافق على تسوية شاملة تسمح باستعادة الاموال المنهوبة من الخزينة العامة، وتحصيل عائدات الدولة من الاملاك البحرية، ناهيك عن ضرب أوكار الفساد ومحمياته، وسد مزاريب الهدر وابواب التهرّب الضريبي والتهرّب الجمركي.
رب قائل إنّ ما سبق طرحٌ طوباوي لا يمكن تحقيقه من قِبل سلطة حاكمة ترفض أن تحاسب نفسها، ومع ذلك، فإنّ تجارب كثيرة حول العالم، أظهرت أنّ الأمر غير مستحيل، في حال تقاطعت المصالح المشتركة ضمن الطبقة الحاكمة، لتجنّب الانهيار الذي سيجرف الجميع إلى قعر الهاوية.
وإذا كانت «التعبئة العامة الصحية» قد بدأت تؤتي ثمارها، بحسب ما يُظهر المنحنى الوبائي لفيروس «كورونا»، فإنّ «التعبئة العامة المالية» تبقى الحل الوحيد لتجنّب وباء الأزمة الاقتصادية، وشرطها الاساس، المقاربة الموضوعية لأسباب الأزمة، والشروع في معالجة تداعياتها، بمعزل عن أي حسابات او اعتبارات سياسية أو غير سياسية.