كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
خرج القطاع المصرفي عن صمته و”بق البحصة”. فـ “تكشير” السلطة السياسية عن أنيابها تمهيداً لافتراس المودعين بعد هضم كل مقدّرات وخيرات الدولة، أصبح يتطلّب مواجهة جدية وإعادة توجيه البوصلة إلى مكامن الهدر والفساد الحقيقية.
المصارف التجارية تحضّر بيانا مشتركاً أقل ما يقال فيه انه مرافعة في وجه الدولة أمام الإدعاء العام الشعبي. والمركزي أصدر بيانا “تقنياً” ميّز فيه حكم “لازارد” عليه بالخسارة، معتبراً ان ما حكي عن خسائر لم تكن إلا مبالغ مدوّرة ومطفأة بمداخيل مستقبلية، أجازت بها القوانين والانظمة التي ترعى عمل البنوك المركزية.
الدولة هي المشكلة
تصويب الحقائق اليوم لا يرتبط بحماية القطاع المصرفي، بقدر ما يعتبر صوناً للنظام الإقتصادي الحر وحماية حقوق الأجيال القادمة. فالورقة الإقتصادية للحكومة أو ما عرف ببرنامج الإنقاذ الإقتصادي تمثّل “النهج الحقيقي للسلطة حالياً. وتخفي نية المسؤولين بتغيير الهوية الإقتصادية للبنان. وإلا ما معنى تنديد مسؤول رفيع المستوى بحجم القطاع المصرفي اللبناني مقارنة مع حجم الإقتصاد. ومن ثم تقرير اعادة هيكلة القطاع وتحجيم المصارف وتخفيض عددها”، يتساءل رئيس كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس نسيب غبريل، ليجيب أن “هذا يعطينا فكرة عن ذهنية تسير بالبلد نحو الإقتصاد الموجه”.
بغض النظر عن فوائد أو مضار حجم القطاع المصرفي اللبناني، فإن تقليصه لا يكون بقرار “سلطوي” انما عبر ديناميكية السوق وقواعد العرض والطلب وضغوط الاسواق؛ فهذه العناصر هي التي تحدد في الإقتصاد الحر حجم القطاعات ومنها المصرفي وليس “فرمانات” الباب العالي.
المصارف تعتذر
إعتذار المصارف عن تقطير حقوق المودعين في استيفاء ودائعهمم منذ 5 أشهر، تبعه أسفها على “اقراض الدولة من أجل دعهما في تطبيق إصلاحات بنيوية في القطاع العام تعزيزاً لقدرات القطاع الخاص ولرفع مستوى معيشة المواطن عبر فرص العمل والنمو”. إلا ان النتيجة كانت مزيداً من انفلاش وتضخم القطاع العام على حساب تقلّص القطاع الخاص. فالجميع في الداخل والخارج يعلم ان المشكلة الأساسية تكمن في القطاع العام وفي سوء الإدارة واساءة الامانة وغياب الشفافية وتزايد كلفة الدولة، حيث “ارتفعت كلفة النفقات العامة بنسبة 150 في المئة بين الأعوام 2005 و2019، وأصبحت من أعلى النفقات في الدول العربية بالمقارنة مع الناتج المحلي”، يقول غبريل. هذا بالإضافة إلى فشل الكهرباء الذي كلف أكثر من نصف الدين العام، وعدم ضبط التهرب والتهريب، ووجود عشرات المؤسسات غير المجدية، وألوف الوظائف الوهمية واستمرار التوظيف العشوائي والانتخابي، رغم تفاقم الازمات وانتفاء الحاجة، ومنهم على سبيل الذكر لا الحصر “31 الف شخص أدخلوا القطاع العام بين الاعوام 2014-2018 “.
الحل سياسي
الحل برأي المصارف هو “أولا سياسي قبل ان يكون اقتصادياً أو مصرفياً”، فمن غير المنطقي ان “تتهرب السلطة المشكلة، من المسؤولية بتشريع غير دستوري قد يريحها لايام قليلة لكنه سيغير وجه النظام الاقتصادي الحر ويقضي نهائياً على إمكانية ازدهار لبنان وعلى مستقبل الأجيال”.
“معالجة أزمة السيولة الحادة. اتخاذ اجراءات استعادة الثقة. محاسبة الاصل لا الفرع مصارحة المودعين. وفتح حوار مع المصارف وهندسة حل يحافظ على حقوق المودعين مثل تقديم مؤسسات عامة مربحة كضمانات للمودع والمصرف”، هي المدخل الوحيد لأي عملية إصلاح جدية برأي المصارف.
المركزي يوضح
في سياق متصل اعتبر مصرف لبنان ان “المعايير الدولية للتقارير المالية IFRS قد أعدت أصلاً من أجل الكيانات التجارية، لذا لا يمكن تطبيقها مباشرة على المصارف المركزية. وعليه فان الخسائر التي قد تستمر لعدة سنوات، يمكن تغطيتها باستخدام الاحتياطيات المتراكمة، وفي حال استنفاد تلك الاحتياطيات، معاودة offset الخسائر المدورة بالأرباح المستقبلية، وذلك إلى حين تصفية تلك الخسائر”. ولتبسيط ما قيل وتحويله من لغة مصرفية جامدة الى لغة مفهومة من الرأي العام، اعتبر رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية منير راشد ان “مصرف لبنان خلال ما يعرف بالهندسات المالية كان يدفع للمصارف فوائد بالليرة اللبنانية على ودائع الدولار أو شهادت الإيداع. ومن أجل اتمام هذه العملية لجأ المركزي الى ما هو مسموح به من عمليات خلق (طباعة) الليرة. وهو ما يعرف بالمصطلحات المصرفية بـ seigniorage”. هذه الأموال لا تحتسبها المصارف المركزية خسائر محققة، بل تدرج في غير بنود، لان قيمتها الاسمية تضمحل مع الوقت.
هذه العملية ظلت “مخفية” إلى ان سلطت “لازارد” الضوء عليها من خلال “خطة الإنقاذ”، معتبرة ان هذه الخسائر المقدرة بحدود 40 مليار دولار يجب ان تحسم من حساب المودعين في المصارف. هذا الحل يعتبر، بحسب راشد، “خطأ جذرياً”، لان هذه “الخسائر” تبقى في حسابات المركزي أولاً، وثانياً ان أثرها أو انعكاساتها الناجمة عن زيادة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية قد دخل الاسواق في الفترات الزمنية السابقة، عندما تم تنفيذ الهندسة المالية وسبّب انعكاسات تضخمية وزيادة في الاسعار. من هنا فان اعتبار هذه الأصول خسائر وتحميلها للمودعين لن يقدم جديداً، بل العكس سوف ينعكس على الإقتصاد والاستثمار وكل ما له علاقة بعمليات الايداع والاقراض مستقبلاً.
“سواب” على الطريق
المستشار المالي غسان شماس يعتبر ان “المصرف المركزي هو امتداد طبيعي للدولة وعليه فان خسارته مقابل ربح الدولة يعني ربحاً له، والدولة مجبرة بالتعويض عنه، أما ربحه فيذهب 85 في المئة منه تلقائياً الى الدولة”. من هنا فان ما قصده تبرير “المركزي” هو ان الخسارة “المرقومة” ستبقى على الدفاتر ويعاد تدويرها للسنوات القادمة، وتعوّض من ربح مستقبلي”. لكن السؤال البديهي اليوم هو كيف ستتصرف المصارف التجارية مع تدوير “المركزي” للخسائر خصوصاً اذا كانت الخسائر من ودائعها؟
يجيب شماس ان ما يجري قد يكون تحضير ما يشبه عملية “سواب” دفترية جديدة، وهي خطوة منطقية لان القول إن المركزي خسر ودائع المصارف التي تقدر بأكثر من 60 ملياراً، يعني ان على المصارف ان تأخذ مؤونات عليها بنفس القيمة، وهو ما يعتبر أمراً مستحيلاً خصوصاً ان كل رساميلها تقدر بحدود 20 مليار دولار. وبالتالي فان تدخيل هذه الارقام من ضمن المطلوبات بدل الموجودات يعني ديناً طويل الاجل لأكثر من 20 وحتى 30 عاماً على المركزي للمصارف التجارية”.
في الخلاصة، قد لا تهم هذه التدابير والاجراءات التقنية السواد الاعظم من اللبنانيين، فكل ما يهمهم هو الاستقراران النقدي والمالي؛ شرطان يبدو انهما لن يتحققا طالما بقي همّ السلطة خلق “راجح” وهمي وتحميله المسؤولية عن تدهور الامور.