كتب حسام عيتاني في صحيفة الشرق الأوسط:
بعد أربع وعشرين ساعة من الطنين الذي صمّ الآذان، نشرت «الوكالة الوطنية للإعلام» الرسمية اللبنانية خبراً من سطرين جاء فيه أن طائرات تجسس إسرائيلية تحلق تحليقاً كثيفاً فوق بيروت وضاحيتها الجنوبية. كان ذلك يومي الأحد والاثنين الماضيين 12 و13 أبريل (نيسان) اللذين مثلا ذروة في مدة الطيران المتواصل للدرون الإسرائيلي في أجواء العاصمة.
انتهاك الطيران الإسرائيلي لحرمة الأجواء اللبنانية ليس جديداً، بل يكاد يكون حدثاً يومياً لا تشير وسائل الإعلام إليه سوى إشارات عابرة أو عند صدور بيان من المؤسسة العسكرية في شأنه. وتجول الطائرات الإسرائيلية المسيّرة والمقاتلة في أجواء الجنوب وغيره من المناطق منذ سنوات طويلة حتى أطلق السكان على الأخيرة أسماء شعبية (أم كامل) بعدما باتت رفيقتهم الدائمة في يومياتهم.
الاعتقاد السائد أن هذه الـ«درون» تراقب، في العادة، نشاط عناصر «حزب الله» وتنقلاتهم وعمليات شحن الأسلحة وتفريغها. بيد أن الغريب في الأيام القليلة الماضية كان إصرار الطائرات المسيّرة عن بعد على البقاء في أجواء مدينة شبه مشلولة الحركة بسبب الحجر الصحي والعطلة الأسبوعية وعيد الفصح.
في المقابل، ليس تفصيلاً عابراً ولا نافلة أن تُقابل جولات طائرات التجسس الإسرائيلية بصمت شبه كامل من المسؤولين اللبنانيين الذين لا يتركون مناسبة إلا ويستغلونها للترويج لأنفسهم ولإنجازاتهم المزعومة، ولو كانت حفر بئر في قرية. الصمت هنا لا يأتي فقط دلالة على العجز عن مواجهة اللامبالاة الإسرائيلية المتمادية حيال السيادة التي يفترض أن تكون شأناً خطير الأهمية في الدول المستقلة. فالدولة اللبنانية لا تملك ما توقف به هذه الطائرات وانتهاكاتها اليومية، لا عسكرياً بسبب افتقار الجيش إلى الأسلحة المضادة للطائرات وللسلاح الجوي، ولا الدبلوماسية نظراً إلى العزلة التامة التي تعيشها الحكومة اللبنانية عن العالم من جهة، وبسبب تجاهل العدو لكل المساعي التي بُذلت في مراحل سابقة لوقف هذه الممارسات بحجة أنه مضطر لإرسال طائرات التجسس لجمع معلومات عن المنظمات التي تعد للهجوم عليه.
المفارقة أن القوة التي قدمت نفسها كمدافع عن السيادة اللبنانية في وجه العدوان الإسرائيلي تلزم صمتاً مطبقاً حيال هذه الخروقات. «حزب الله» أو «المقاومة الإسلامية» الذي برر احتفاظه بسلاحه بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية سنة 2000 بضرورة تحرير مزارع شبعا المحتلة، ثم باختراع مهمات تدخل في صميم وظائف الدولة، قبل أن ينتقل إلى تصدير المقاتلين إلى سوريا واليمن والعراق، يتقاسم عملياً السيادة مع الدولة اللبنانية. فهو شريكها العلني في الدفاع عن البلاد بحسب البيانات الحكومية التي كانت تتحدث عن وحدة «الجيش والشعب والمقاومة» عند التصدي لأي اعتداء إسرائيلي.
بيد أن التوزيع النظري لمهمة الحفاظ على السيادة بين الدولة والحزب، ترافق عملياً مع تخلي الدولة عن سيادتها على الداخل. فالدولة بغضها النظر عن وجود جيش موازٍ للجيش الوطني تخلت بوعي أو من دون وعي عن احتكارها للعنف وتنظيمه وتركت طرفاً أهلياً يفرض بقوة الأمر الواقع والسلاح الذي في حوزته قوانين تتزايد باستمرار تحت اسم «حماية المقاومة» أو أمنها أو جمهورها أو مناطقها، وهذه كلها أدوار لا قيام لدولة إذا شاركت أي طرف خارجها بها أو تنازلت عن أي منها. المعابر البرية غير الشرعية والنفوذ الواسع للحزب في الأجهزة الأمنية وفي المطار والمرافئ، وسيطرته على مساحات واسعة ومغلقة من الأراضي، تعلن تنازل الدولة عملياً عن سيادتها. يضاف إلى ذلك أن الواقع يجيز للأحزاب والقوى الأخرى المطالبة بالامتيازات عينها. وكل هذا كلام قديم قدم تفكك الدولة اللبنانية وتحولها إلى أداة لتوزيع المغانم على الزعامات الطائفية.
الجديد هو الاكتشاف الذي صار يسمع اللبنانيون طنينه من دون توقف: لا فصل بين سيادة داخلية وأخرى خارجية. والعجز عن الأولى مع التمسك بشكلياتها يقود إلى تخلٍ عن الثانية عارٍ من كل ستار. وتمثيل الدولة اللبنانية أنها ذات سيادة عند إغلاقها للطرق وفرض إجراءات زجرية على المواطنين الفقراء الذين يحصلون قوتهم بعمل يومي بادعاء الحفاظ على صحتهم من وباء «كورونا» واعتقال المتظاهرين أمام المصارف بذنب مطالبتهم باستعادة أموالهم المصادرة، يسلط الأضواء على سفاهته وغياب المعنى عنه فشل الدولة حتى بالاعتراف أن سيادتها تنتهك من عدو بطاش لا يتردد في تسيير طائراته لأيام متواصلة فوق عاصمة دولة ذات سيادة.
العجز عن منع الخروقات الإسرائيلية، في هذه الحالة، هو الاسم الآخر لتخلي الدولة عن وظائفها طوعاً أو كرهاً لكل من تمكن من المرور من شقوق الانقسام الطائفي وليزيد الاجتماع اللبناني خراباً على خراب وليجعل آمال اللبنانيين مجرد سراب بعيد.