Site icon IMLebanon

المطلوب رؤية مستقبلية وأفكار جديدة

كتب جو سرّوع في صحيفة “الجمهورية”:

يعرض البرنامج الاقتصادي الشامل للحكومة اللبنانية، الذي وزّعته واعتبرته النسخة الأولى، أهدافها لإيجاد حلول للأزمة الاقتصادية المتجذّرة والمشاكل المالية المؤسساتية، ولإعادة الثقة وتفعيل النمو الاقتصادي، ولبناء نظام مالي صحي للوصول إلى استدامة الدين والمالية العامة. وورد في البرنامج أيضاً تأكيد الحكومة التزامها بتقوية التعاون مع المؤسسات المالية العالمية، أملاً في الحصول على دعم مالي وتقني للتخفيف من تداعيات الإجراءات المالية وتحديداً على الناس الأكثر انكشافاً. كما تلتزم بقوة بتحسين نظام الحكم الجيد لصالح المحاسبة، واستعادة المال من الذين عاثوا فساداً وعبثوا بالمالية العامة.

نالت هذه المسودة ما نالته من مراجعات وتعليقات، وتحديداً في ما يتعلّق ببند «الهيركات» للودائع، ما دفع الحكومة إلى اتخاذ قرار بمتابعة البحث في هذه الخطة في مجلس الوزراء، وتأجيل النقاش في بند «الهيركات» بعد الاعتراض شبه الشامل عليه، من ضمن استكمال مناقشة البرنامج ككل في المجلس. وفي هذا السياق، نود الإضاءة تحديداً على موضوع إعادة هيكلة القطاع المصرفي ومصرف لبنان، لنخلص إلى أهمية هذا القطاع في تحقيق أهداف أي خطة إنقاذ نهائية متوازنة وشاملة وعادلة.

وتعتمد الخطة «استراتيجية موسعة متعددة الجوانب، بهدف تحقيق إعادة قوة القطاع المصرفي واستقراره على المدى المتوسط». ويبدو أنّ هذه الاستراتيجية بُنيت على برنامج يؤدي في رأينا في المحصّلة، إلى تقليص هيكلية القطاع المصرفي وموازناته فرادى ومجتمعة، وتحميله مع المصرف المركزي بالمختصر ما آلت إليه الحالة المصرفية والنقدية والمالية في البلد. عملياً، من الممكن أن يكون تقليص هيكلية القطاع المصرفي بالمطلق، من خلال تصفية ذاتية أو بالاندماج، علماً أن التصفية الذاتية هي مكلفة جداً على أكثر من صعيد، ومن جهة أخرى إنّ اندماج مؤسستيْن غير صحيتيْن مالياً لا ينتج مؤسسة صحية، بل بالعكس يعمّق المشكلة المالية، مع العلم أنّ تداعيات تحقيق هذين الأمرين قسراً، لن تؤدي إلى استعادة الثقة، كما ستكون مؤلمة وقاسية على صعيد البطالة التي ستنتج عنها حكماً، واستباحة غير عادلة لحقوق المودعين. ومن المؤكد أنّ أي إعادة تشكيل فوقية للمصارف، لن تحقق استقراراً مالياً للقطاع أو تساعد على استعادة الثقة فيه على المَديين المتوسط والطويل، وعوضاً من أن تنتج دعماً للاقتصاد الوطني ستكون عبئاً عليه.

في المقابل، إنّ استعمال تدبير BAIL OUT لتعويم المصارف التي تعاني أزمات مالية ونقدية، لا ينسحب على الحالة المصرفية والنقدية اللبنانية، إذ انه مع إقرارنا بوجود أسباب أخرى وراء الأزمة، يبقى السبب الأساسي والأكثر تأثيراً نقدياً، استدانة الدولة المتمادية لتمويل فسادها وهدرها، ومؤخراً تخلّفها عن الإيفاء بتعهداتها بإعادة الدَين إلى أصحابه، والذين هم في النتيجة أصحاب الودائع. وإحقاق الحق هو الخيار الأوحد من دون توصيف ولا مِنّة، إذ ان الثقة في القطاع المصرفي يلزمها في المقام الأول السيولة النقدية، وأي عملية إعادة هيكلة للديْن، يجب أن تأخذ في الاعتبار إعادة القيمة النقدية لودائع الناس وهذا هو الحق، وذلك انطلاقاً من برنامج مدروس يتواءَم مع إعادة ولادة لقطاع يَعي تماماً كيف يبني على قدراته ويتعلّم من أخطائه قبل وبعد مرحلة انعدام الوزن الذي يعانيه حالياً، وبالتوازي مراجعة القوانين والنظم التي ترعى عمل القطاع المصرفي بكل مكوناته، من قبل السلطات المعنية والمختصة، وكل ما من شأنه أن يفك التشابك المتمثّل بالدولة والمصرف المركزي والمصارف، الذي أنشأ المأزق المالي والنقدي والمصرفي الحالي وفاقَمه، واستبداله بمثلث المصرف المركزي والمصارف والاقتصاد.

كما أن لا إعادة للثقة من غير السيولة، وبغضّ النظر عن الحال التي وصل إليها القطاع، أعتقد أنّ ما وصلت إليه القيمة الصافية للأصول للمصارف، قد تشجّع بعض المستثمرين في الداخل والخارج على تقصّي إمكانات وكلفة الاستثمار فيه. لكن زيادة إمكانية هذا النوع من الاستثمار، تستدعي توفير مناخ استثماري محفّز وجاذب، بما فيه إعادة النظر في بعض القوانين المرعية الإجراء، لا سيما في ما يتعلق بتشجيع المستثمرين الجدد وملاءمة مسؤولياتهم بالنسبة إلى مساهماتهم وفصل الإدارة التنفيذية عن مجلس الإدارة. وتعزّز هذه الإمكانية، تبنّي المصارف كلّ على حدة، عملية إعادة البناء على ركيزة آنية واستراتيجية وخطة قابلة للتنفيذ وإدارة رشيدة شفافة، خاضعة للتحقيق والتحقق والمحاسبة، مؤسساتياً في الداخل ومن السلطات المعنية وفق القوانين والنظم المرعية الإجراء. وكذلك من الطبيعي أن تشمل هذه الاستراتييجة، الاستثمار في بنية المصارف التحتية التكنولوجية لتواكب الأكثر حداثة منها في العالم وتنمية مواردها البشرية. وتستلزم هذه الورشة التطويرية للقطاع، أولاً تحصينها من السياسة ووقف الحملات عليه والتي بلغت ذروتها خلال الأشهر الماضية، والتي نالت منه مؤسسات ونظاماً وعلى الصعيدين الكمّي والنوعي.

لقد ورد في الخطة ما يتعلّق بإعادة هيكلة مصرف لبنان المركزي، والتعرّف الى خسائره المتراكمة خلال السنوات الماضية، وتخصيصها، بالإضافة إلى الخسائر المرتقبة من إعادة هيكلة الدين السيادي، واعتبار هذه الخطوة أولى الأولويات في إعادة إصلاح القطاع المصرفي اللبناني. وفي هذا الإطار ورد في الخطة أيضاً أنّ «السلطات ستعمد، إلى تكليف متخصصين مهنيين عالميين لإجراء تدقيق كامل في حسابات البنك المركزي، تغطي السنوات الخمس الأخيرة، وتقييم انكشاف المصارف على البنك المركزي، وإعادة هيكلة تامة لموازنة المصرف المركزي، بما في ذلك شطب الخسائر المتراكمة في السنوات الماضية، كما ستحددها عملية التدقيق وتداعيات إعادة هيكلة الدين السيادي بالليرة وبالدولار».

ولا يسعنا إلا أن نذكّر تكراراً أنّ خسائر البنك المركزي هي ودائع االمصارف في البنك المركزي وودائع الناس في المصارف. في هذا الإطار من الممكن أن يكون بيان المصرف المركزي الصادر في 14 نيسان 2020، بعنوان «مصرف لبنان: مؤتَمن على الحفاظ على العملة الوطنية والمعايير الجديدة للمحاسبة العالمية التي اتّبعها منذ العام 2007، على غرار المصرف المركزي الأوروبي والعديد من المصارف المركزية، والتي تتعلق بتدوير الخسائر في انتظار أرباح مستقبلية». وختم أن مصرف لبنان «لا يعتبر أنّ هذه المبالغ تمثّل خسائر، فهي مبالغ مدوّرة ومطفأة بمداخيل مستقبلية». إنّ «مصرف لبنان مؤتمن على الحفاظ على العملة الوطنية بهدف تأمين أساس نمو اجتماعي واقتصادي دائم (المادة 70 من قانون النقد والتسليف)». وفي رأيي إنّ المعاني التي وردت في هذا البيان، وتحديداً في فقرته الأخيرة، واضحة ولا تحتاج إلى تفسير، وهذا كاف لإطلاق بحث هادئ وبعيد من الأضواء بهذا الشأن، بين الحكومة والمصرف المركزي في حضور مدقّقي حسابات المصرف المركزي والمدققين الذين تختارهم الحكومة والذين ورد ذكرهم، علماً أنّ مدققي حسابات المركزي هم من الخمسة الكبار في العالم. وبذلك يكون هذا الأمر وُضع في سياقه المهني، لتحقيق أهداف الحكومة التي وردت في خطتها وذكرناها سابقاً في هذا الخصوص، بالسرعة اللازمة والفاعلية المطلوبة.

وتجدر الإشارة إلى أننا عندما نقول مصارف نعني الصناعية المصرفية والناس، وعندما نقول مصرف لبنان المركزي نعني المؤسسة والناس، وليس الشخصانية المهنية IDENTITY FINANCE .

كما قد يكون هناك ضرورة لإعادة النظر في بعض القوانين التي تحكم عمل المصرف المركزي المؤسساتي، وبما يعزّز شفافيته وسبل مراقبته والتحقق من أدائه والمحاسبة، من قبل مرجعيته القانونية والإدارية. لكن أيضاً من المهم جداً الحفاظ على استقلالية عمل البنك المركزي ضمن القوانين والنظم المرعية الإجراء، مع تجنّب عدم التضارب في المصالح مع مرجعيته وفي هيكليته الإدارية.

باختصار شديد، بُنيت هذه الخطة على ما سبق من إجراءات تقضي بإعادة هيكلة المصارف ومصرف لبنان، بالإضافة إلى مجموعة من التدابير لتقليص الإنفاق في القطاع العام، والتي طالت على سبيل المثال وليس الحصر، فاتورة الأجور وإصلاح نظام التقاعد والتحاويل إلى 73 كياناً مثل السكك الحديد والنقل العام وغيرها. وقضَت هذه الإجراءات أيضاً بخفض الانفاق الاستثماري واستبداله ببعض المساعدات الخارجية، مثل تلك المقررة في مؤتمر «سيدر» وغيره. ونَصّت الخطة على تدابير تقضي بتحسين المداخيل من ضبط المعابر غير الشرعية والتهرّب الضريبي، والأملاك البحرية، والتي بقيت إلى الآن عصية عن التحقيق. وشملت الخطة إجراءات ضريبية لتعزيز الدخل، على سبيل المثال وليس الحصر، رفع الضريبة على أرباح الشركات من 17 إلى 20 في المئة وعلى الفوائد المصرفية للمبالغ التي تفوق المليون دولار من 10 إلى 20 في المئة، والضريبة على القيمة المضافة على السلع الكمالية من 11 إلى 15 في المئة، وتحديد أرضية لسعر صفيحة البنزين بـ 25 ألف ليرة وفتح السقوف، ورفع الضريية على الرواتب المرتفعة من 25 إلى 30 في المئة، وعلى الربح الرأسمالي من 10 إلى 15 في المئة، وزيادة 1000 ليرة على الغاز السائل.

كما تعوّل هذه الخطة على إشراك المؤسسات المصرفية العالمية، والتي أشارت الحكومة في الخطة إلى التزامها الانفتاح عليها كلها، بما فيها صندوق النقد الدولي، للحصول على دعم مالي خلال السنوات الخمس، بين 10 مليارات دولار و15 ملياراً. وفي هذا الخصوص اعتبرت الحكومة أنّ هذه الخطة صالحة لبدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وانطلاقاً من إقرار بأهميته نظراً إلى الثقة التي يوحيها ولِما يمثّله في هذه المجالات، ومن الممكن أن يسهّل مشاركة المؤسسات العالمية الاخرى في عملية إنقاذ لبنان.

كما أنّ الخطة تفترض التخلي عن سياسة تثبيت النقد ابتداء من عام 2021، بحيث ينخفض سعر الليرة إلى 2607، وفي عام 2022 إلى 2771، وإلى 2891 و2979 في عامي 2023 و2024 على التوالي.

إنّ المفاعيل الانكماشية لإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإجراءات خفض الإنفاق في القطاع العام، والإجراءات الضريبية، مع احتمال عدم التحقيق الفعّال لتقديرات تحسين المداخيل والتضخم المتوقع وصوله إلى مستويات عالية، جرّاء الانخفاض في سعر الليرة، وذلك للوصول في عام 2024 إلى نمو يُقدّر بـ 2 في المئة، وناتج قومي بقيمة 30.4 مليار دولار، أي بذوبان يُقدر بـ 19 مليار دولار عن سنة 2019. نرى أنّ هذا النمو غير كاف، إذ لا يمكن لبنان أن يتحمّل هذا المسار وهذه الإجراءات الانكماشية والتضخمية STAGFLATION للوصول إلى نمو 2 في المئة في عام 2024، بعد انكماش 6.9 في المئة في 2019، وتوقّع انكماش نسبته 12.0 في المئة عام 2020 و7.0 في المئة عام 2021 و3.0 في المئة عام 2022، ونمو صفر في 2023. إنّ هذا المسار سيعمّق الأزمة وقد يؤدي بالاقتصاد إلى الانزلاق السريع. ويعزّز رأينا هذا، عمق التقليص المستهدف للقطاع المصرفي وإمكانية اهتزاز استقلالية المصرف المركزي من جرّاء إعادة هيكلته.

يبدو أنّ الخطة بُنيت أكاديمياً على أرقام جامدة ومطلقة بدلاً من فلسفة تعتمد على رؤية مستقبلية ثاقبة تستنبط أفكاراً جديدة. كما أنّ تفاصيلها تحمل في طياتها «شياطين» تسكن في آليات تنفيذها ودواعي حوكمتها وإدارتها الرشيدة، وأسس ونظم شفافيتها وتدقيق مجرياتها، والتحقق من أدائها ومحاسبتها، وفي احتمالات مقاومتها من داخل الحكومة وخارجها وشعبياً، لمفاعيلها الاجتماعية القاسية. أضف إلى ذلك، إمكانية عدم حصولها على الدعم الكافي من المؤسسات المالية العالمية، إمّا لأن جدوى إطارها الماكرو إقتصادي على المدى المتوسط هو غير مقنع، بإيقاف الانزلاق الحاصل، أو في عدم وجود عرّاب متحمّس مثل فرنسا في مؤتمرات «باريس» و»سيدر»، أو لعدم إعطاء المعنى الحقيقي حتى الآن للإصلاح ومحاسبة الفساد واستئصاله، أو لعدم إعطاء المعنى الحقيقي لسياسة النأي بالنفس، وعودة لبنان الحقيقية إلى محيطه العربي وأصدقائه وشركائه في العالم، أو التشكيك المتنامي في استقلالية الحكومة لاتخاذ القرار النافذ في مواجهة ثقافة المحاصصة وتغليب ثقافة المواطنة، وفاعليتها في اتخاذ القرار وترجمته إلى فعل مُجد، وفعاليتها في إدارة الوقت. إذ انّ الوقت وحده هو الذي يحدد قيمة الأرقام وليس قيمتها الحسابية، صحيح أنّ للوقت أهمية لكن في الوقت ذاته هو سلعة باهظة الثمن، وستكون كلفة كل يوم تأخير على البلد والناس أضعافاً مضاعفة، لا حول ولا قوة للبلد والناس على تحمّلها.