كتب إيلي الفرزلي في “الاخبار”:
فشلت محاولة الضمان الاجتماعي حثّ الصيدليات على تسليم الأدوية للمرضى مقابل تحصيل ثمنها مباشرة من الصندوق. المبرر نفسه يتكرر: لا نثق بالضمان. لكن ذلك لا يستوي مع الدور الذي يُفترض أن يقوم به القطاع في تطوير المجتمع. القلق على المستحقات حق. ولذلك يفترض على الأقل فتح نقاش في السبل المثلى لتبديد القلق، بدلاً من التعامل بسلبية مع مساعي وزارة العمل وإدارة الصندوق. لكن مع ذلك، فإن خطوة أولى قد تفتح باب بناء الثقة. أول الغيث موافقة الصيادلة على الربط الإلكتروني مع الضمان، فهل تؤدي هذه الخطوة إلى تذليل العقبات التي تحول دون إنهاء معاناة المضمونين على أبواب الضمان؟
انتهت أزمة المضمونين، المصابين بأمراض السرطان والأمراض المستعصية، بأقل الأضرار. بعد أسابيع من التأخر في حصولهم على أدويتهم الدورية، نتيجة إقفال مكاتب الضمان، ورفض نقابتَي الصيادلة والمستوردين أي حل لا يضمن للصيدليات الحصول على ثمن الأدوية فوراً، اضطرت إدارة الضمان إلى فتح أبوابها مجدداً، مع تدابير خاصة تهدف إلى حماية المضمونين والموظفين من احتمال العدوى بكورونا.
حددت إدارة الصندوق مواعيد خاصة لفتح كل مركز، كما وضعت أرقاماً هاتفية مخصصة للحصول على موعد مسبق لتقديم المعاملات، بما يضمن تجنب الازدحام. تلك الخطوة لم تمر بسلاسة في الأيام الأولى. شكاوى كثيرة وردت عن عدم الرد على الاتصالات الواردة لتحديد المواعيد، أو على عدم وضوح أي من المراكز هي العاملة. بالنتيجة، سلكت الأمور مسلكاً يسمح، على علّاته، بحصول المرضى على أدويتهم اللازمة، بعد تأخر كثر عن تلقي العلاج نظراً إلى توقّف الضمان عن الدفع ورفض الصيادلة تغيير النموذج المتبع في قبض ثمن الأدوية.
«لا نثق بالضمان»
حُلّت أزمة حصول المضمونين على أدوية الأمراض المستعصية بالتي هي أحسن، في ظل إصرار نقيب الصيادلة غسان الأمين ونقيب المستوردين كريم جبارة على عدم التعاون للمساهمة في حل الأزمة. بالنسبة إليهما، فإن عدم تمكّن المضمونين من الحصول على أدويتهم هو مسألة تخص الضمان وحده، وهو الذي كان يجب أن يحلها، من دون إقحام النقابتين في الأمر. في النهاية، هذا ما حصل. وزيرة العمل لميا يمّين وجّهت كتاباً إلى الضمان تطلب فيه الاستمرار بتأمين أدوية الأمراض السرطانية والمستعصية. وإدارة الصندوق أعدّت الترتيبات اللازمة لذلك، بعدما أيقنت أن مسألة الربط مع الصيدليات هي مسألة مرفوضة بالمطلق.
لم يناور الأمين وجبارة. أعلنا السبب علناً: لا نثق بالضمان. الأمر نفسه يكرره عدد من أصحاب الصيدليات الذين اتصلت بهم «الأخبار»، سائلة عن ملاحظاتهم على إمكانية الاتفاق مع الضمان بما يسمح للمرضى بدفع النسبة المستحقة عليهم للصيدلية مباشرة، على أن تقوم الأخيرة بتحصيل أموالها من الضمان. سريعاً يحيلون السائل إلى تجربة المستشفيات، التي عانت لسنوات طويلة للحصول على مستحقاتها من الضمان. لا أهمية هنا لتغير الأوضاع، ولحقيقة أن الضمان صار يعطي المستشفيات سلفاً. كذلك لا أهمية لإعلان المدير العام للصندوق محمد كركي استعداده، في اللقاء الذي جمعه مع نقيب الصيادلة منذ أسابيع، للانفتاح على أي حل يطمئن الصيادلة.
في الأساس، وحتى لو دفع ثمن الأدوية نقداً، فإن أغلب الصيادلة لا يتحمسون لبيع هذه الأدوية، بعدما انخفض الربح عليها بشكل كبير، وصاروا يتقاضون ربحاً مقطوعاً. على سبيل المثال، كان يمكن لحصّة الصيدلي أن تصل إلى مليون ليرة إذا باع دواءً باهظ الثمن، لكنها انخفضت حالياً إلى نحو ١٠٠ ألف ليرة. وهذا المبلغ يعتبره الصيادلة بلا جدوى لأن هذه الأدوية ترفع رقم الأعمال كثيراً، ما يؤدي إلى زياد العبء الضريبي على الصيدلية.
تهرّب ضريبي أم ضغوط مالية؟
يقول أحد العاملين في الضمان إن ذلك يمكن أن يكون سبباً في عدم حماسة الصيدليات لإيجاد حل لمسألة حصول المضمونين، كما يمكن أن يُبحث مع وزارة المالية إمكانية حسم ثمن هذه الأدوية من رقم الأعمال لدى احتساب الضريبة. لكن نقابة مستخدمي الصندوق لها رأي آخر. هي تقول بصريح العبارة إن سبب رفض الصيدليات للربط الإلكتروني مع الضمان هو خوفها من انكشاف تهربها من الضريبة. الربط يسمح بتحديد حجم الأعمال بدقة، بينما البيع النقدي يسمح بتضليل الإدارة الضريبية. تقول النقابة في بيان صدر في الثاني من نيسان الحالي (تاريخ صدور المذكرة التي يحدد فيها كركي آلية استقبال معاملات المضمونين الذين يحتاجون إلى شراء أدوية السرطان والأمراض المستعصية)، إن عدم تعاون نقابة مستوردي الأدوية والصيادلة مع الضمان سببه «رغبتها في جني الأرباح الفورية وتعزيز التهرب الضريبي وخوفاً من انكشاف أرباحهما».
هل هذا يعني أن «حلم» تخلّص المضمونين من معاناة التكدس في أروقة الضمان ومكاتبه للحصول على ثمن الأدوية قد تبخّر؟
تشير المعلومات إلى أن وزيرة العمل، المقتنعة أيضاً بضرورة الخروج من الأزمة الحالية بإنجاز الربط بين الضمان والصيدليات، عقدت اجتماعاً مع نقيبي الصيادلة والمستوردين لمناقشة المسألة معهم. لم يتغير موقفهما من مسألة تغيير القواعد المعمول بها حالياً، بحجة أن الصيدليات، وخاصة الصغيرة منها، لا تحتمل البيع بالدين، وبالتالي لا يمكنها الانتظار لشهر أو أكثر ريثما تحصل على أموالها من الضمان. والحجة نفسها تسوقها شركات الأدوية. هي الأخرى لا يمكنها أن تنتظر لشهر ريثما تحصل الصيدليات على أموالها فتدفع لها. تلك الحجج تتغاضى فعلياً عن حقيقة أن بعض الصيدليات توافق على أن لا يدفع لها المضمون إلى حين أن يقبض من الضمان، والأمر نفسه يحصل مع الشركات التي تفتح خطاً ائتمانياً مع الصيدليات. لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن الصيدليات تشكو من تغير نمط العلاقة مع الشركات. فتلك التي كانت تنتظر شهرين لتحصل على أموالها خفّضت المدة إلى شهر، وتلك التي كانت تنتظر شهراً صارت تكتفي بأسبوعين، فيما أخرى تطالب بالدفع الفوري. أضف إلى أن معظمها يرفض قبض الشيكات، مفضلاً الدفع النقدي. اللافت أيضاً أن الصيدليات صارت تفتقر إلى العروض التي اعتادت الشركات تقديمها. وكل ذلك، بسبب نسبة الـ ١٥ في المئة التي ألزم مصرف لبنان الشركات على تأمينها بالدولار.
هذه ملاحظات على أهميتها، إلا أنها لا تبرر للطرفين، الشركات والصيدليات، رفض إحداث صدمة إيجابية في المجتمع اللبناني والمساهمة في تخفيف معاناة الناس. وهنا طبعاً ليس المقصود أن يغامروا بعدم الحصول على مستحقاتهم. المطلوب أن يوافقوا على المبدأ على الأقل. أما الاكتفاء بالرفض وإعلان عدم الثقة بالضمان، فذلك لا يتناسب مع الدور الذي يُفترض لهذا القطاع أن يقوم به، كما لا يتناسب مع الاتجاه العالمي المتعلق بالتعاملات الإلكترونية. الموافقة على المبدأ تفتح الباب على مناقشة الضمانات المالية، وخاصة في ظل دعم وزيرة العمل لعملية التطوير هذه، وحماسة المدير العام للضمان محمد كركي لها، والتي عبّر عنها أكثر من مرة، مبدياً استعداده للسير بأي اتفاق يطمئن الصيدليات.
الربط الإلكتروني
الخطوة الإيجابية التي سجلت في اجتماع وزيرة العمل مع نقيبي الصيادلة والمستوردين، كانت التوافق على الربط الإلكتروني بين الصيدليات والضمان، علماً بأن وزيرة العمل تؤكد أن العمل جارٍ حالياً على إعداد دفتر شروط تمهيداً لاختيار نظام الربط المناسب.
والربط هذا كان مطلباً دائماً للضمان. وإن كان لا يغيّر في الآلية المعتمدة حالياً، إلا أنه يساهم في تسريع إنجاز المعاملات. إذ يعمد الصيدلي بعد تسليم الدواء والاستمارة للضمون إلى إدخال تفاصيلها إلى نظام الربط. وبذلك، عندما تقدم المعاملة إلى الضمان، يكتفي الموظف بمسح الكود الخاص بها، فتظهر أمامه الفاتورة التي سبق أن أدخلها الصيدلي، ما يوفر عليه إعادة إدخال المعلومات مجدداً ويسرع بالتالي في إنجاز المعاملة.
تلك قد تكون خطوة على طريق الألف ميل، على أمل أن تبني الثقة ما بين الضمان والصيادلة. وخاصة أن إدارة الضمان سبق أن أكدت استعدادها لدفع سلف للصيدليات، بعد أن يتم في المرحلة الأولى تقدير حجم المبيعات لكل صيدلية. لكن مرة جديدة، المشكلة تتعلق بعدم استعداد النقابة لأيّ تقدم في هذا المجال. أي أمر آخر سيفتح الباب أمام مناقشة كل الاحتمالات المطمئنة، ومنها على سبيل المثال البحث في استنساخ تجربة شركات التأمين. الأمر بسيط. بحسب البرنامج الذي تثبته هذه الشركات مع الصيدليات المتعاونة، يكفي أن تمرر بطاقة التأمين الخاصة بالمريض على آلة بطاقة الائتمان حتى يظهر ملف المريض على الشاشة. يدخل الصيدلي أسماء الأدوية المطلوبة، وينتهي الأمر. بعد ذلك، وتبعاً لنظام كل شركة يتم إرسال المبلغ إلى الحساب المصرفي للصيدلية. بعضها يرسله بعد يوم واحد فقط، وبعضها الآخر يحتاج إلى أكثر من أسبوع، علماً بأن الصيدلي يسلّم الأدوية للمريض بدون العلب، التي تسلّم كل فترة إلى شركة التأمين، التي تعود بدورها وتقدمها إلى الضمان، في حال كان المريض مضموناً.
تلك آلية سهلة، ولا تحتاج إلى ضمانات جدية. إذا كان مبرر الصيدليات لعدم التعامل مع الضمان هو عدم الثقة، يكفي اشتراط إجراءات شبيهة بتلك المتّبعة مع شركات التأمين.