كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
على قاعدة “اسمعني وما تصدقني” كرجت الروايات حول جريمة بعقلين… وبين التأويل والتحليل والإشاعات بحثت “نداء الوطن” عن خيوط الحقيقة وأسرار القرية الشوفية، الواقعة على سبع تلال وتبدو بيوتها، مع النهر المتدفق، كلوحة تشكيلية من صنعِ الطبيعة… ومعه، مع تدفق النهر، حيكت خيوط جريمة كما بيت العنكبوت!
ليست بعقلين وحدها نُكبت عصر ذاك النهار، في الحادي والعشرين من نيسان، لهول الجريمة التي جرت فيها على بعد 45 كيلومترا من العاصمة بيروت. فهل ما حصل في بعقلين تمّ في «لحظة تخلّ»؟ هل من ذبح و»قوّص» مختلّ؟ هل الحادثة «جريمة شرف»؟ هل المجرم قاتل أم هو أيضا ضحية؟
منال، الصبية منال التيماني، زوجة فوزي حرفوش، المتيمة حباً به منذ وعت على هذه الدنيا، هي بيت القصيد، في الجريمة، وهي أولى ضحاياها. وأسهل الأمور أن نردد مع القائلين، كما الببغاء، أن منال، خانت شرف زوجها فقتلها. هذا سهل. لكن، فلنبحث عن الحقيقة على الأرض كي لا نقتل منال مرتين.
نأخذ الأوتوستراد الساحلي، ومنه نتوجه صعوداً، من مفرق الدامور، الى بعقلين. حاجز للواء الثامن. نعبر من امامه صعوداً صعوداً. نعبر دميت، نقطع سرجبال، كفرحيم، دير دوريت. نتمهل في الموقع الذي استشهد فيه كمال جنبلاط. وننعطف نحو بعقلين. رئيس البلدية عبدالله الغصيني يدلي بأحاديث متتالية الى وسائل الإعلام المتقاطرة الى بعقلين ويبدو في كل كلامه، كمن يحاول أن يبعد عن بلدته صيت «التعصب» وإدراج الجريمة في خانة الأمر الشخصي، داخل البيت الواحد، فلا السوري مقصود «لأنه سوري» ولا العرسالي مقصود «لأنه عرسالي» بل ما حدث نتج عن حالة قد تكون «عصبية». نصدق؟ يبدو أن الحلّ الأسهل يبقى أن ينعت المجرم بأنه مختل وبأن الحجر المنزلي أثر عليه ففعل ما فعل.
يستأذن «الريّس» ليجول على بيوت أهل الشقيقين المتهمين مازن وفوزي حرفوش وأهل القتيلة منال التيماني معزيا. نجول في أرجاء القرية البعقلينية الرائعة. الهواء عليل وزهور الأقحوان تشق الصخر وتخرج بنفسجية رائعة. ثمة حياة حتى من قلب اليباس. نمشي كثيراً قبل أن نصل الى أول الخيط، الى بيت التيماني، الراكن في وادي نهر بعقلين. نعبر إليه عبر طريق فرعية غير معبّدة وطقطقات البحص تحت الدواليب، تزيد عن دقات القلب من رهبة الجريمة. ستة أو سبعة رجال يجلسون أمام بيت متواضع جدا، من طبقة واحدة، وصدى صوت إمرأة في الداخل يتسلل بقوة الى آذان كل من في المحيط «يا حياتي يا إمي يا حياتي».
هنا منزل الأشقاء مازن وفوزي وكريم. كريم (17 عاما) الذي تأكل النملة عشاءه وقتل ذاك العصر مع من قُتلوا. وهنا، في الغرفة المجاورة للبيت، الملتصقة به، الذي بناه مازن حجراً حجراً يسكن مع زوجته منال التي ذبحت. الوالد، رب البيت، في التحقيق والوالدة الملتاعة تندب وأصهرة البيت يجلسون في الخارج. نتأنّى في اختيار مرادفاتنا ونحن نطرح الأسئلة لكن، كل سؤال، يقع عليهم كما السوط. فالقتلة من هذا البيت واثنان من المقتولين من هذا البيت. المباحث الجنائية أكدت أن منال قتلت ذبحاً أولاً.
وماذا عن ابنتيها سيريا (5 سنوات) ولييان (سنتان ونصف) أين كانتا؟
يجيب صهر البيت: أخذتهما منال الى بيت والدتها قبيل الحادث. ويستطرد هو وكل الموجودين كلّ ما قد يخطر في البال: والدة المتهمين مازن وفوزي وثلاث من شقيقاته كنّ هنا لكنهنّ لم يدركن ما حصل إلا بعد قدوم المباحث. كان شباك الألمينوم مفتوحاً قليلاً فرأوها غارقة بدمها على سريرها. كانت بلباس المشيخة. أرادت منال منذ وقت قصير أن تصبح شيخة. ومازن إشترى قطعة قماش هو أيضا لتكون أول ثوب مشيخة له. هو آدمي. هو كان صيادا ماهرا لكنه لم يُمسك ببندقيته منذ عامين. هو كان يلهث وراء القرش لتأمين حياة لائقة. باع المياه في «بيك آب». باع منحوتات صنعها. باع الخضار. وعمل في الأمن الخاص «سيكيوريتي». هو كان «حلال المشاكل» بين أهل البيت فهل يعقل أن تقوى مشكلته الى هذا الحدّ عليه؟ يقول صهره هذا بصوت عال فيجيبه الصهر الآخر: لا، لا أستطيع أن أصدق أن مازن يقتل. ربما خطفه مع شقيقه أحدهم. ربما. تصرخ الوالدة الملتاعة مجدداً: يا تقبروني يا ماما… فيقول أحدهم «هي مريضة أعصاب».
لم يصدّق أحد، حتى اللحظة، أن ما حصل حقيقة وليس خيالاً. والدة منال مثل المجنونة. فابنتها وحيدتها و»كل عمرها وسبب تمسّكها في هذه الحياة» يخبر قريب بيت حرفوش هذا عن والدة منال جميلة. هي اتصلت به مرة واثنتين وثلاثاً تسأله «وين بنتي». ولمنال شقيق واحد اسمه فاضل من والدها.
مازن وفوزي فرّا بسيارة الأخير. والسيارة مع هاتف مازن وجدا على الطريق العام. أمام البيت سيارة من نوع هيونداي على زجاجها الأمامي بطاقة تعريف باسم منال وفي قلب السيارة غصن صنوبر وكيس مكتوب عليه باتيسري سالم العريضي. كل شيء مادي في مكانه لكنه بلا روح… بلا أرواح.
ننظر الى فوق، نحو ثلاثين متراً الى فوق، هناك، في البيت المطل حصلت الجريمة. السوريون كانوا عمال بناء في ذاك البيت ومعهم كان أبو حسن، إبن عرسال، الذي جاء منذ مدة بقريب له من عرسال. نذهب الى البيت. سكون رهيب ورائحة الدم تفوح. منقل للشواء. فناجين قهوة شفة، سكر، بن، شاي، نرجيلة، سكين، منشار وحذاءان لطفلين وكثير من الثياب الملطخة بالدماء. وثمة إبر مشلوحة في كل مكان. وهناك، فوق الدماء، تراب. زنخة الدم تشتد. تُرى ماذا وراء هذه الجريمة؟ لماذا حصل ما حصل؟ لماذا قتلوا من قتلوا؟ وإذا فرضنا أن ثمة قطبة خفية لها علاقة بالشرف بين منال وأحدهم فما ذنب شقيق مازن الأصغر كريم؟ كريم يقوم بإصلاح الدراجات النارية وهو يزور دائما هؤلاء السوريين فهل صودف أنه كان هناك وقتل عن غير قصد؟
صوت البلابل التي ترفرف في الأجواء قوي. بندقيتان استخدمتا في القتل من نوع «بونباكشن» و»كلاشنيكوف» غير أن أهل مازن وفوزي يجزمان أن لا بندقية عندهما إلا بندقية صيد.
نقصد منزل والد منال في قلب بلدة بعقلين. الدخول ممنوع غير أن «الأهل» يقومون بالواجب أمام المبنى. هنا حزن كبير وتوتر كثير. وإصرار على إبعاد أي «اشاعة» حول طهارة منال. واستعانة ببيانات متلاحقة في هذا الاطار. فهذا بيان نعي موقع من مشيخة عقل آل حمادة ومن أخوالها آل حرب ومن آل تيماني وعموم أهالي بعقلين والشوف فيه: نؤمن بالعدالة الإلهية والقضاء والقدر ووجوب التزام الصمت لأنه يضع في ذمته شابة طاهرة هادئة مثقفة معلمة. هي معلمة مادة الحساب في مدرسة مارمارون- بيت الدين.
وماذا بعد؟ لماذا حدث ما حدث؟
هناك، في بعقلين، تأكيد أن ما حدث ليس من شيَم الموحدين الدروز. وهناك، في بيت المتهمين، تأكيد أن ما حصل ليس من شيَم أهل البيت. وهناك، في بيت أهل منال تأكيد أن ابنتهم أشرف من الشرف.
يبقى أن جثث القتلى موجودة في مستشفى عين وزين والمباحث الجنائية موجودة بكثرة في بعقلين والكلاب البوليسية تتقفى آثار مازن وفوزي… فهل سيظهران؟ هل سيظهران أحياء؟ وهل من مصلحة، للأطراف، كافة بعدم ظهور القطبة المخفية؟