Site icon IMLebanon

لبنان بعد “كورونا”: إما السلاح وإما الودائع

كتب أحمد عدنان في صحيفة “نداء الوطن”:

لا يمكن الحديث عن “المستقبل” اللبناني من دون النظر إلى سوريا وإلى الأراضي الفلسطينية، وبالطبع من دون إغفال المشهد المتوسطي الكبير.

فمن حيث الوضع السوري يمكن قراءة المؤشرات التالية: 1- ان النزوح السوري مشكلة عالمية، وبشار الأسد سبب رئيس في هذه المشكلة، وعقبة أصلية أمام حلها. 2- ان العالم العربي يعيش لحظة معادية ضد الإسلام السياسي، وبشار الأسد يتحالف مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحزب الله. 3- ان مشروع إعادة إعمار سوريا من الأوراق المطروحة لتنشيط الاقتصاد العالمي، وهذا المشروع تعول عليه روسيا الكثير.

والحديث عن سوريا يقودنا الى حديث ضروري عن إيران التي تمر بأسوأ أيامها وأحوالها، وهناك انقسام حقيقي داخلها، قسم يرى التفاوض من أجل الانكفاء، وقسم يرى التصعيد من أجل التفاوض (ومن صور ذلك تحرش زوارق الحرس الثوري بالسفن الأميركية مؤخراً)، وأول من أدرك انقسام إيران ووهنها هم الروس، ومعنى ذلك، انه بعد أن كان بشار الأسد نقطة التقاطع الإيراني – الروسي، قد يصبح نقطة التصادم لأسباب لا شأن له بها، فروسيا تنظر للتهاوي الإيراني بحبور، لأنها لا تريد أن يشاركها أحد في الكعكة السورية، وبشار – شاء أم أبى – كائن “متأيرن” سلبياته ومشكلاته لا حصر لها، لذلك ربما حدد الروس ثمن المرحلة المستقبلية: سوريا بلا شريك، والتفاهم حول القرم. والأجدى في هذه المرحلة تسويق الصفقة الروسية وتشجيعها بدلا من الانفتاح على الأسد وإسناد إيران بالتنفس الصناعي، فالتسوية مع الأسد لا قيمة لها، والتسوية مع إيران قاتلة.

وهنا لفت النظر واجب إلى أن تمكن الروس من سوريا قد يكون من تبعاته تصديهم لمسؤولية ضبط الحدود اللبنانية – السورية بكل معانيه السياسية والعسكرية.

ومن حيث صورة المتوسط، ليس خافيا انه موضع تنافس محموم بين قوى كبرى، سواء من روسيا او غيرها، وقد شهد التاريخ اللبناني سابقا انعاكاسات لصراعات مشابهة، ففي الماضي انعكس صراع النفوذ والتوسع بين الإمبراطوريات وكذلك بين الولاة الطامحين، وكان الهدف بسط الهيمنة وخطوط التجارة والإمداد، وعنوان التسابق اليوم هو خطوط الغاز.

ومن حيث الوضع في الأراضي المحتلة، يبدو ان المستقبل يطرح مؤشرات ملفتة: 1- قد يكون الرئيس محمود عباس آخر رموز الدور الفاعل لمنظمة التحرير الفلسطينية. 2- صفقة القرن المعلنة تضمر صفقة القرن الحقيقية: الدولة الواحدة التي تجمع تحت سقفها الفلسطينيين والإسرائيليين، او عودة غزة إلى مصر وعودة ما تبقى من الضفة إلى الأردن (والخيار الثاني الأكثر ترجيحا يعالج مشكلة اللاجئين إلى حد كبير)، أي ان صفقة القرن ما زالت في مرحلة التبلور. 3- قد نشهد نمواً حقيقياً لدور عرب 48 سواء محل منظمة التحرير او في دور الوساطة بين العرب وبين إسرائيل، وهم جديرون بذلك.مستقبل لبنان

في ظل المعطيات السابقة، وبسبب تعقيدها، ليس غريبا ان يكون الحديث عن مستقبل لبنان شائكاً ومرهقاً، خصوصاً إذا لاحظنا قسوة المشهد اللبناني في الساعة الراهنة، ومع التأكيد أن هذه الأسطر لا تمثل إلا صاحبها.

كيف تنظر القوى الإقليمية إلى الثورة اللبنانية؟ تنظر لها كقضية عادلة ومحقة تتخللها اختراقات، فالعلاج السليم يبدأ من التشخيص السليم، وإلقاء مسؤولية الأزمة اللبنانية على الموتى، او على من غادروا السلطة منذ 10 سنوات وأكثر، فيه حماقة وسخف. إن أرقام لبنان بدأت في التهاوي منذ سنة 2011، حين أطبق “حزب الله” فكيه على الدولة، (حين ننظر إلى معدلات النمو والتدفقات النقدية الخارجية من 2005 إلى 2011 نجدها أكثر من ممتازة)، وتمادى التردي مع تضخم سلطان الحزب وتورمه داخل لبنان وخارجه، وحين أوصل الحزب حليفه إلى رئاسة الجمهورية ثم استولى على البرلمان سقط السقف على رؤوس الجميع.

إن حرص البعض على تعويم المشكلة، “السبب هو نهج الثلاثين سنة الماضية” كما يقول بعض الثوار، لا تفسير له في الخارج الا أن هذا الخطاب مركب على السذاجة والانفعال وبالتالي لا يمكن البناء عليه، فخلال العقود الثلاثة تغيرت موازين القوى غير مرة، آخرها وأخطرها سنة 2011 التي نحصد ثمارها اليوم. او ان هذا الخطاب يريد تبرئة ميليشيا “حزب الله” من جرائمها داخل لبنان وخارجه من أجل مشاركته في السلطة، وعليه أيضاً نحن امام خطاب لا يستحق التجاهل فقط، بل أن يلقى كذلك مصير الحزب المصنف دولياً كجماعة إرهابية.

بلغة واضحة ومباشرة، لن يلمس اللبنانيون عوائد الغاز قبل دهر طويل، ومخصّصات مؤتمر سيدر، بحكم المتغيرات الإقليمية والدولية، أصبح أغلبها من التاريخ، وما بقي منها أصبحت شروطه أكثر تشدداً، وليس أمام لبنان إلا الولايات المتحدة ودول الخليج، وهو معسكره الطبيعي على أي حال بحكم المصالح، وهذه الدول لن تمنح “حزب الله” قبلة الحياة بذريعة إنقاذ الدولة او الاقتصاد، فما من عاقل يقبل بتمويل عدوه الباغي، وما يفعله “حزب الله” اليوم هو انه يوجّه الشارع إلى أعداء وهميين من باب التضليل الذي قد يصفي بعض خصومه، او من باب التمني بأن تنقلب المعادلات في الإقليم، لكن التمني والتضليل لا يغيّران الحقائق والوقائع.

لن يستطيع لبنان النهوض من كبوته الاقتصادية من دون مساعدة دولية، وهذا الدعم الدولي لن يتقاطع مع “حزب الله”، في الماضي قال خطباء الحزب إن قوته هي قوة لبنان، واتضح اليوم أن قوته تساوي ضعف اللبنانيين وعزلتهم، ووصلت التداعيات إلى ساعة الحقيقة، إما السلاح وإما الاقتصاد، إما السلاح وإما لبنان، وكما ان سطوة السلاح دمرت الاقتصاد، فانكسار السلاح – مع تطبيق الإصلاحات الواضحة التي نص عليها سيدر – ترياق حتمي لتعافي الاقتصاد والقطاع المصرفي.

وما يثير الدهشة، قيام البعض – تصنعاً للوطنية – بالمساواة بين الدول التي دعمت لبنان، وبين الدولة التي دمرته (إيران)، ولم يفكر أحد في مقاضاة الدولة الإيرانية لتعوض لبنان عن الضرر الذي الحقته به، فإذا لم نتحدث عن الشهداء تكفي الإشارة الى التبعات الاقتصادية للعزلة الدولية، وتبعات حرب تموز على المالية العامة. المستقبل اللبناني بعد كورونا مثقل بتحديات مستحيلة: 1- استعادة الدولة من الميليشيات والطائفية. 2- صون السلم الأهلي في ظل كساد اقتصادي مريع ومناخ متشنج عابر للقارات. 3- إحياء الاقتصاد في إطار خيارات ضيقة ومحدودة. 4- العودة إلى العالم في لحظة يعيد العالم فيها صياغة نفسه. وكل هذه التحديات لا مجال لتجاوزها إلا بالتصادم مع السلاح الإيراني.

المعركة الحتمية مع السلاح الإيراني يدعمها، ان تجربة إيران سقطت في العالم العربي (العراق، سورية ولبنان)، وإيران نفسها تخنقها الأزمات الداخلية والدولية، وهي معركة لن تعرف السهولة والسلاسة مطلقاً، لذلك، وجب التنبيه الى أن معركة السلاح تستدعي القطيعة مع فكره المأزوم كي لا يدور اللبنانيون في دائرة مفرغة، ولننظر إلى الأحوال المتردية التي آلت إليها أغلب دول “جبهة الصمود والتصدي”.

استند عصر الرئيس الشهيد رفيق الحريري، عصر الإعمار والتنمية، إلى مشروع إقليمي ودولي هو “الأرض مقابل السلام”. وحين يتم الحديث اليوم عن الزعامة والمستقبل، لا يمكن إغفال أن مشروعاً جديداً للسلام على مستوى الإقليم في مرحلة التشكل: صفقة القرن.

يتحدد مصير لبنان، ويتحدد الرابح فيه، تماماً كما على مستوى المنطقة، بمدى الانخراط في المشروع الإقليمي – الدولي الجديد، فعلى مستوى الطوائف – رؤساء وجماعات – ستؤول الزعامة والسيادة إلى من سيرفع راية “صفقة القرن”، وإذا أخذ التبني طابعاً رسمياً يمكن التحدث عن خريطة آمنة للعودة إلى العالم وإحياء الاقتصاد، وبالتالي يمكن الاطمئنان إلى استعادة الدولة وصون السلم الأهلي.

أصعب ما في هذه القضية هو مواجهة الذات وتغيير الأفكار، فالسنّة بحاجة إلى مواجهة ترسّبات المرحلة القومية والانخراط المطلق في مفهوم الدولة الوطنية، وحظوظهم جيدة بحكم أن مفتاح العلاقة بين الشرق والغرب آل إليهم. والمسيحيون بحاجة إلى الخروج النهائي من اليمين الطائفي إلى المواطنة. والدروز بحاجة إلى التمسك بحسهم التاريخي الفذ في قراءة المتغيرات والتكيف معها، وهذا الأرجح والأجدى، خصوصاً مع صعود عرب 48، وانتشارهم الجغرافي الذي يمس 4 دول (لبنان، سورية، الأردن وفلسطين). والشيعة المعارضون لإيران آن لهم التحرر من معايير إيران وقوانينها وسلبياتها داخل الطائفة إلى ما هو أبعد وأنجع.

تدحرجت بيضة نسر من أعلى جبل لتستقر في قن دجاج، اعتنت الدجاجات بالبيضة حتى فقست وخرج منها نسر صغير ظن نفسه دجاجة بحكم ما يحيط به، وذات يوم رأى هذا النسر سرباً من النسور يحلق في الأعالي، فتمنى لو طار مثلهم ومعهم، سخرت منه الدجاجات حتى خجل من فكرته، وانتهى بأن عاش حياته كالدجاج.