كتب أحمد الزعبي في صحيفة “اللواء”:
الجريمةُ المروّعة التي وقعت قبل أيام في بلدة بعقلين وأودت بحياة عشرة أشخاص بينهم سيّدة وطفل وفتى، وقبلها بأيام جريمة لا تقلّ بشاعة وقعت في بلدة جديتا البقاعية وراح ضحيتها أمّ وابنتها وإصابة البنت الثانية بجروح خطيرة على يد الابن!! وتكرار حوادث إحراق أشخاص لأنفسهم يأساً وقنوطاً ومرارة من واقع حياتي ومعيشي ظالم، وكثيرون غيرهم يموتون يومياً وإن لم ينتحروا… كلها محطات لقطارُ موتٍ عبثي سريع، قتلاً لأسباب عبثية أو انتحاراً في سبيل لقمة العيش، فإذا ما أضيفَ الخطابُ السياسيُ الشعبويُ، والفسادُ المستشري، والانسدادُ الكبير في الاقتصاد وشؤون الحياة، وغيابُ أيِّ أفقٍ للتغيير أو الإصلاح.. كل ذلك يعيدُ من جديدٍ طرحَ السؤال عن قيمة الإنسان في هذا البلد، وعن سبلِ تحصينِ الأمن الاجتماعي فيه.
منظومة قيم مهترئة
الواقع أن ما يجري من أشكال الموت التراجيدي ليس منفصلاً عن تأزمات وتعقيدات متشعبة، سياسية واقتصادية وحياتية وثقافية واجتماعية، ولا ينفصل أيضاً عن مآسٍ مشابهة لا تكفّ تتنقل بين منطقة وأخرى، ومن أسبابها اللاثقافة، استسهال إزهاق الأرواح بوحشية وطيش وتسرّع واستهتار، من دون مراعاة قيمة الحياة وعظمتها، وتفشي الجريمة ظاهرة سلبية جداً تحتاج علاجاً سريعاً. منظومة قيم مهترئة؛ فوضوية وعنفٌ مكبوت، وعنصرية مقيتة، وجرائم وتجاوزات وتراكمات تنذر بخطورة الأوضاع التي لا تعكس استقراراً هشاً، وتفلتاً أمنياً، وجموداً في النصوص القانونية فحسب، بل اختلالاً وفتوراً في نظام القيم الاجتماعي، والأخطر أن كلَّ ذلكَ ينذرُ بالأسوأ بفعل الانسداد وغياب الأفق ومحدودية الخيارات.
الوقائع والأرقام والحيثيات والقضايا المتصلة بالجرائم وظواهر التحلل الاجتماعي والأخلاقي، تكفي لتأكيد وجود أزمة اجتماعية – أخلاقية في ظاهرها، لكن عوامل عدة، سياسية واقتصادية شاركت في استفحالها، ليس أقلها عدم الاستقرار وتعاظم الفساد وغياب المحاسبة، والفساد بوجوهه المتعددة، وعدم ايلاء السلطة الاهتمام الكافي للرعاية والأمن الاجتماعي والتربوي.. كل ذلك أنتج احتقاراً لإنسانية الانسان، وعدم مراعاة لحرمة حياته وعظمتها، وكشف عورات البلد وحاجته للعودة للفطرة السليمة والإدارة السياسية الرشيدة.
منطقُ الفراغ وغيابُ الدولة
مؤسفٌ أن الإنسان في لبنان، من دون اعتبارات الدين والمذهب والرتبة الاجتماعية والمالية، ليس قيمةً بحدّ ذاته، وهذا ما ينمّي نزعةَ التمرد، وعدم الاحتكام للقانون، بل وعدم التردد في الانزلاق نحو الغرائز وردود الأفعال، وإلا كيف يمكن تفسير فوضى السلاح، وثقافة اليأس، واحتقار الحياة، و«معاداة» الفرح والنجاح والتميّز والشغف بالانجاز والتقدم؟!
الاضطرابُ الذي يضربُ المجتمع هو في أحد وجوهه كفرٌ بالدولة، واستسلامٌ لمنطق أن الفراغ وغياب السياسات والرؤى هو «الأصل»، وهو المتحكم في تفاصيل الحياة العامة. ثمةَ شعورٌ عميق بأن البقاء في هذا البلد للأكثر فساداً، وبأن «المواطن» العادي لا حقوق له ولا قضاءَ يحميه!! في لبنان قلّما تعيشُ لوقت طويل جريمةٌ شنيعة، أو مسألة صادمة أو فضيحة أو ملف فساد، حتى لو اتخذت شكل قضايا رأي عام. النَفَسُ اللبناني قصيرٌ في التعامل مع هذه المسائل وأشباهها مهما كانت صادمة. الاختلالات وغياب الشعور بدفء المواطنة وتراجع حقوق الإنسان وانتشار ثقافة التعايش مع الفساد والفاسدين يحيل كل شيء، كلّ شيء.. مهما بلغت درجة فضائحيته أو قساوته، إلى النسيان الذي يطوي الأحداثَ كطي السجل للكتب. والمطلوب لملمة ذلك بسرعة من خلال ورشة وطنية عاجلة وشاملة. فطالما أن الإصلاح السياسي أو التغيير الشامل مستحيل راهناً (أقله بوجود هذه الطبقة السياسية)، فلا بدّ من العمل على صون المجتمع وإعادة السكينة إليه كمقدمة ضرورية لصناعة المستقبل والتأسيس للتغيير.
نعم، لا يخلو مجتمع من جرائم ومآسي وتجاوزات، لكن المجتمع اللبناني عاش لسنين عديدة، مستقراً متفائلاً ومتماسكاً، رغم التعثرات الاقتصادية والأزمات الحياتية وضيق الأحوال، حتى في فترات الحرب، حافظ على تماسكه وتقاليده وقيمه الروحية، لكن تكاثر ظواهر استسهال الخروج على الانتظام، وتفشي السلاح والفساد والزبائنية، والتسرع بالقتل، واحتقار قيمة الانسان، تعكس جميعها تشوهات طرأت على النسق الاجتماعي وعلاقات الناس ببعضها، ويجب ترميمها بسرعة، فحقوق المواطنة والحياة وصيانة الأنفس والعقول قيمٌ كبرى لا يجوز بأي حال انتهاكها أو التقليل من شأنها في أي مجتمع يريد الاستمرار والبقاء.
لا تغيير إلا بالثورة
يمكن الجزم بأن المجتمع اللبناني، المنهك بالفساد وغياب الفرص والضغوطات الاجتماعية والاقتصادية، بات يعيش درجات عالية من القلق والاضطراب العميق بشكل أَخرجَه عن سكينته المعهودة، هكذا تقود جريمة القتل الوحشية إلى البحث في التأزم بالعلاقات الإنسانية ومنظومة القيم والمنطق السويّ في البلد كاملاً وليس في المدينة أو البلدة التي حصلت فيها. نعم هناك ضرورة لضبط السلاح المتفلت، لكن أيضاً هناك مشكلة أعمق تتمثل بالاضطراب المجتمعي والشعور العميق بالظلم الذي تسببت به الطبقة السياسية، وكذلك غياب الاهتمام الرسمي بالأمن الاجتماعي، وتقصير الجهات الدينية المسؤولة في تعزيز سلوكيات السكينة ومنطق التعايش بين الناس، وكل ذلك يجعلنا أمام أزمة مكتملة العناصر والأسباب والتداعيات وتحتاج تأملاً دقيقاً ونقاشاً علمياً ونفسياً وصحياً لبحث أسباب ما يجري للوقوف عليها، ثم صياغة سياسات وبرامج تعيد للمجتمع أمنه المفقود.
الظلم المتلاحق، والفساد المتعاظم، وغياب الحريات، والسرقات الفاجرة لحقوق الناس بوقاحة ومن دون مساءلة أو خوف.. ثم حصر دور «الدولة» بتوزيع «إعاشات» متواضعة على شرائح من المجتمع وقد باتت غالبيته تحت خط الفقر.. كل ذلك لا يقلّ خطورة في دلالاته عن الجرائم الصادمة والوحشية، فكلاهما يعكس احتقاراً متمادياً لقيمة الإنسان وحقوقه وملكيته وحرياته. إنه عهدُ النحسِ والبؤسِ والشعاراتِ الرنانة، وما بعد الإعاشات إلا المجاعة والفوضى إن لم يخرج الناس في «ثورة كاملة» تعيد تصويب البوصلة وتصحّح المشهد. الثورة على الطغمة التي جعلت البلد فاسداً ومفلساً وسرقت بوقاحة أموال الناس، بدايةٌ لإعادة الاعتبار لإنسانية الانسان في هذا البلد.. وبعدها تأتي تتمة المشهد.