كتب رولان خاطر في “الجمهورية”:
كلما اجتمع اثنان كانت الثورة ثالثهما. إلى هذا الحد، أضحت الثورة أيقونة المتوجعين والأمل الأوحد الذي يستورد نوراً يضيء طريق الحريّة وقيام الدولة.
فقدت الناس كل الثقة بأيّ منظومة سياسية لا تكون “مستقلّة”، حتى بمَن لم ينخرطوا في تجارب الفساد. وأثبتت تجربة حكومة حسان دياب أنّ معيار الاختصاص في غياب الاستقلالية لم ينفع. لم ولن يخرج البلد إلى ضفة الأمان، لا داخلياً ولا عربياً ولا دولياً، لا مالياً ولا اقتصادياً ولا سياسياً. وأنّ أصحاب الاختصاص متى كانوا مستزلمين لا يبنون وطناً.
وسط هذا الأداء السياسي الدراماتيكي، ووسط مساعي مَن خرج من السلطة التنفيذية للعودة إليها بأيِّ “فنّ ممكن”، الرهان يكبر ويكبر على الثوار، الذين باتت مسؤوليتهم تاريخية ومفصلية في إنتاج سلطة سياسية نظيفة.
رهانات خاطئة
لا بدّ من الإشارة إلى أنه إلى جانب وجهها الايجابي بالتغيير، للثورة أيضاً وجه سلبي، وهو عدائيتها مع الماضي. فهي ترفض كل كيان سياسي سابق ليشاركها في إعداد تفاصيل المستقبل. وبالتالي، بغضّ النظر عن مناقبية ونظافة أيّ فريق سياسي في الحكم عموماً، لا بد من ان يتعرّض للظلم، لأنّ طبيعة الثورات كليّة لا تتجزأ.
وبما انّ النظام السياسي اللبناني فشل في تطوير نفسه، وفشل اللبنانيون في إحداث تغيير عبر السنوات الماضية، وصلوا اليوم إلى مواجهة مباشرة وصعبة مع منظومة فساد، محميّة بالقوة التي يمنحها إيّاها الحُكم من جهة، ومن جهة أخرى بمنظومة عسكرية وأمنية غير شرعية تحمل بعداً إيديولوجياً وعقائدياً ومشروعاً للوطن ويتخطى الوطن.
الرهان على العسكر
يعيش كل مَن شارك وراهن على ثورة 17 تشرين الأول قليلاً من الخيبة وعدم الثقة، بعد ما اعتقدوه تراجعاً في مسار الثورة، وكأنهم يريدون إنتاج مفاعيل سريعة ضد سلوك مدمّر دام اكثر من 30 سنة، والناس كانوا جزءاً أساسياً في استمراره. فنسمع اليوم من بين “الرهانات – التمنيات”، الرهان على الجيش اللبناني كفريق داعم لأي انتفاضة جديدة في الشارع، لأنّ عناصره كغيرهم باتوا على شفير الافلاس والجوع.
لكن هل هذا الرهان في محله؟
في تقرير أوردته “نيويورك تايمز” في تشرين الأول 2019، تحت عنوان “إغراء الانقلاب في أميركا اللاتينية”، يقول كاتب المقال: “في الإكوادور عام 2000، وفي فنزويلا عام 2002، وفي هندوراس عام 2009، والآن في بوليفيا، صفّقت جماعات المعارضة عندما تدخّل الجيش لإزالة الحكومات التي اعتبرتها غير فعالة أو فاسدة. وأعلنت هذه الجماعات أن التدخل العسكري هو وسيلة للدفاع عن الديموقراطية”. لكنه يؤكد أنّ “هذه الآراء مضلّلة. فنادراً ما تؤدي الانقلابات العسكرية إلى تحولات ديموقراطية. غالباً ما تحصل الانقلابات في الحالات التي يكون فيها الهدف ديكتاتوراً راسخاً، كما في فنزويلا عام 1958، والفليبين عام 1986 وباراغواي عام 1989. والانقلابات ضد الحكومات المنتخبة غالباً ما تدفع البلدان إلى مسار ديموقراطي أقلّ”.
أما الجيوش العربيّة، فقد خذلت شعوبها في ثوراتها، باستثناء حالة واحدة، وهي تونس، حيث لم يتصرّف الجيش كحامٍ للسلطة بل كمؤسسة وطنية.
في لبنان، أيُّ رهان على الجيش تحت أي ظرف أو اعتبار للوقوف إلى جانب الثوار هو خطأ استراتيجي، وله أبعاد مختلفة، لسنا في صدد الدخول فيها. إنّما، كون الجيش اللبناني مؤسسة وطنية، تضم في صفوفها أطياف المجتمع كافة، لا يمكن له أن يقف إلى جانب انتفاضة تريد إسقاط السلطة التي يأخذ أوامره منها، لكي لا يُعدّ هذا انقلاباً، ولا يستطيع في الوقت نفسه أن يتحوّل نموذج جيش الأسد الذي قصف معارضيه بالكيميائي للقضاء عليهم. فتركيبة هذه المؤسسة لا تتحمل الذهاب بالعنف إلى حدود قصوى، من دون أن يؤدي ذلك إلى انهيار وانقسام أو أقله تزعزع في هذه التركيبة. واقصى ما يمكن أن يفعله الجيش للسلطة، لا يرتقي إلى مستوى كسر الثورة متى اندلعت. وهناك سبب آخر لتجنّب الرهان على الجيش في حل الأزمات، يقول كاتب مقال “نيويورك تايمز”: “إنّ التدخل العسكري يقوّض تطوير المؤسسات الديموقراطية”.
في مواجهة “حزب الله”
في الموازاة، هناك أجهزة عسكرية وأمنية رديفة في لبنان إلى جانب أجهزة الدولة. ومهما تواضعت قيادة “حزب الله” في خطابها السياسي لا يُخفى على أي متابع أنّ “حزب الله” هو “الحاكم الفعلي للبلد”، على حد توصيف خصومه.
لذا، في رأي مصدر في الانتفاضة منذ 17 تشرين، أنه “في حال حصول تخاذل السلطات الشرعية لقمع أيّ حراك، لن يتورّع “حزب الله” عن التدخل، لأنه بطبيعته يرفض أي حركات تحرّرية، ولو كانت تحت عناوين اقتصادية ومعيشية، لأنّ باكورتها ستنتقل الى السياسة، وهذا الأمر سيُفقده امتيازاته ليس فقط سياسياً إنما أيضاً مالياً، داخل السلطة والقرار، وهو أمر مرفوض”.
ولكن، يتابع المصدر: “يدرك “حزب الله” المطوّق بالعقوبات وبالعزلة العربية والدولية، أنّ حدود اللعبة في لبنان لا تشبه تلك الموجودة في الساحات الأخرى، إن في العراق أو سوريا أو إيران. فهناك، يستطيع الإيراني إطلاق النار وقمع المتظاهرين، لكن في لبنان مهما تمادى الحزب، هناك خطوط حمر، لا يستطيع أن يتخطاها، لأنّ دونها عواقب جمّة داخلياً وخارجياً. علماً أنّ الشواهد القريبة والبعيدة أثبتت أنّ أيّ عنف تمارسه السلطة، سيؤدي إلى “توالد” أشخاص جدد للثورة في الساحات والميادين”.
على أنّ السلطة ليست في وارد الانصياع لمطالب المنتفضين، بل انّ التجاوزات ازدادت منذ 17 تشرين. لذلك، فإنّ المسؤولية الوطنية للانتفاضة تتطلّب إجراء نقدياً ذاتياً عن كل المسار منذ انطلاقتها للوصول إلى خلق قوّة سياسيّة جديدة عازمة على ضرب ما كرّسه أهل الحكم. وهذا لا يُترجم إلا بوجود عقل استراتيجي للانتفاضة يوحّد الرؤى، ويطلق العمل على مسارات عدة، أبرزها:
ـ أولاً، تكوين بنية تنظيمية ولو على مستوى المناطق كمرحلة أولى، تتألف من مجالس ثورة، وهذه المجالس لها تركيبتها التنظيمية لتفعيل وإدارة اللعبة عبر إنشاء خلايا تتبع عمودياً مجلس الثورة لكل منطقة.
ـ ثانياً، تجتمع خلايا المناطق دورياً بهدف جمع قواها، وتوسيع نشاطها، واستنهاض الشباب واستقطابهم لمشروعها، الذي يجمع شمال لبنان بجنوبه وشرقه بغربه من دون تمييز أو إنكار لأحد.
ـ ثالثاً، إنشاء وحدات متخصصة داخل مجالس الثورة، (وحدة الاعلام، وحدة العلاقات العامة، وحدة التخطيط…) وتضع برنامجها لتحقيق مشروع الثورة.
ـ رابعاً، تكوين مجلس ثورة مركزي تتمثّل فيه كل مجالس المناطق، بهدف بلورة مشروع سياسي موحّد للثوار، وتحديد البوصلة لبلوغ الهدف.
ـ خامساً، في موازاة التنظيم الداخلي، فتح قنوات التواصل مع الخارج، الاغتراب، والمنظمات الانسانية والحقوقية والديبلوماسية.
ـ سادساً، توحيد الرؤى السياسية والمطالب في برنامج واضح، يكون أساساً لخوض المعارك السياسية والاستحقاقات، وعبره إلى تحقيق معارضة برلمانيّة فاعلة تستند إلى قوة سياسية.
ـ سابعاً، ربط هذه المعارضة بشارع مُستنفَر عبر الخلايا أو الهيئات التي تم إنشاؤها والتي تنشط في المناطق اللبنانية كافة.
ـ ثامناً، المحافظة على سلوك الثورة السلمي لكن مع إعادة توجيه البوصلة نحو أساس المشكلة. فلا حلّ اقتصادياً في منأى عن الحل السياسي، الذي يبدأ بإزالة “هيمنة” حزب الله عن القرار اللبناني، على حدّ تعبير خصومه.