شكّل الصِراعُ السياسي الذي انفجر في الساعات الماضية وبلا قفازاتٍ فوق السفينة اللبنانية التي تغرق أوضحَ تعبيرٍ عن «جَبل المخاطرِ» الذي لا ينفكّ يكبر واضعاً البلاد أمام سيناريوهاتٍ سود يتسابق فيها الانهيارُ المالي – الاقتصادي مع شارعٍ يغْلي مُنْذراً بـ«الانفجار الكبير».
وعَكَسَ تَحَوُّلُ الأزمةِ المالية «متعدّدة الرأس»، التي لم يسبق أن شهد لبنان مثيلاً لها في تاريخه، متراساً متقدّماً في المعركة السياسية، خطورةَ المنعطف الذي تقف البلاد على مشارفه وسط احتراق الليرة اللبنانية أمام الدولار (بلغ سعر صرفه نحو 4 آلاف ليرة وهو رقم غير مسبوق) وعدم بروز أي بوادر لتحقيق اختراقٍ ايجابي في مسار الإنقاذ الذي تتداخل فيه العناصر البوليتيكو – مالية، المحلية والدولية.
وبدت بيروت السبت تحت وقع الصدمة التي شكّلها اندفاعُ الحكومة بلسان رئيسها حسان دياب وغطاء عرّابيها الرئيسيين نحو عملية اقتصاصٍ، اعتبرت أوساط مطلعة عبر «الراي» أن واجهتَها مصرف لبنان وحاكمه، ولكن «بنك أهدافها» الفعلي استكمالُ تصفيةِ الحسابات مع خصوم الحكومة و«محاكمة» المرحلة السابقة تحت عنوان «الأعوام الـ30 الماضية» وتحميلها مسؤولية الكارثة المالية.
واعتبرتْ أن ما حَمَلَتْه جلسةُ مجلس الوزراء الجمعة، جاء بمثابة «إقالة مع وقف التنفيذ» لحاكم المصرف المركزي رياض سلامة، أعطتْ واقعياً رصاصةَ انطلاقِ منازلةٍ سياسية سرعان ما جرى ترسيم «خطوطها المتفجّرة» مع تَعاطي المعارضة معها ولا سيما الرئيس سعد الحريري ومع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط على أنها بمثابة «إعلان انقلاب بلغة عسكرية من جنرال يتقمّص دور رئيس الحكومة»، بهدف تحميل مسؤولية الانهيار في اتجاه حاكمية مصرف لبنان وتغيير هوية الاقتصاد الحر وإعلان الحرب على الحريرية السياسية.
ولاحظت الأوساط أن الحكومة التي سحبتْ الغطاء عملياً من حاكم «المركزي» عبر وضْعه من دياب في «قفص الاتهام» بـ«الغموض المريب في أدائه» داعياً إياه إلى «ان يخرج ويعلن للبنانيين الحقائق بصراحة وما سقف ارتفاع الدولار وما أفق المعالجة»، بدت فعلياً مقيَّدة، أقله حتى الساعة، في الإطاحة بسلامة بعامليْن:
الأول داخلي يرتكز على عدم وجود أدلة ملموسة للنفاذ من الفتوى القانونية التي استندت عليها معركة إقالة سلامة، وعدم وجود تفاهُم على البديل، ناهيك عن تحوُل هذا الملف عنصر تجاذُب بين مكونات الحكومة مع رفْض وزيريْ رئيس البرلمان نبيه بري (أحدهما وزير المال غازي وزني) منحى الإقالة حين جرى «استكشاف» أفقه.
والثاني خارجي في ظلّ إشاراتٍ غربية تلقاها لبنان من «التهوّر» في مثل هكذا قرار في حمأة الأزمة المالية، علماً أن الولايات المتحدة غالباً ما اعتبرت أن حاكمية مصرف لبنان تشكّل أحد عناصر الاطمئنان إلى امتثال بيروت للعقوبات الأميركية على «حزب الله» ومصادر تمويله.
واستوقف الأوساط عيْنها أن وضْع سلامة في «عين الإقالة» ترافق مع تمهيدٍ لتحميله تبعة السقوط المريع لليرة أمام الدولار والذي تسارعت وتيرته في ساعات قليلة، وهو ما اعتُبر من ضمن محاولةٍ لتأليب الشارع الغاضب ضدّه واستثمار الأرض التي تهتزّ لـ«الانتقام» السياسي من مصرف لبنان والقطاع المصرفي على خلفية ملف العقوبات، وسط تقارير إعلامية لم تتوان عن الغمز من قناة دور لـ«حزب الله» في الضغط على الليرة لاعتباراتٍ تتصل أيضاً بالأضرار التي سبّبتْها تعاميم «المركزي» التي سعى عبرها لاجتذاب الـFRESH MONEY بالدولار، بما يؤدي إلى كبْح اقتصاد الـCASH الذي يساعد الحزب بالالتفاف على العقوبات وإبقاء الاقتصاد الموازي على نشاطه.
ومن هنا رأت الأوساطُ أن لبنان دَخَل مرحلةً مفتوحة على «عصْفٍ» سياسي لا يمكن تحديد آفاقه، ولا سيما مع بروز مواقف نارية من رؤساء الحكومة السابقين وشخصيات سنية غالبيتها تحدّثت أمس من دار الفتوى وعَكَستْ أن «المهادنة» معه داخل البيت السني وكذلك مع الحكومة انتهتْ، وهو ما يشي بانكشافهما الكامل في غمرة محاولات تَلَمُس طريق الإنقاذ المالي التي علقت «بين نيران» السياسة.
وكان دياب، وبعيد ساعات من زيارةٍ لمقر قيادة الجيش في اليرزة، فجّر عقب جلسة مجلس الوزراء مواقف في أكثر من اتجاه، بلغت حد التهديد بأنه «خاطئ مَن يعتقد اننا سنتفرج عليهم وهم يخططون للانقلاب عبر سلب الناس أموالهم ولن نتهاون في قمْع كل عابث بالاستقرار المالي والدولة ستضرب بحزم… وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون»، لافتاً إلى ان «المحاسبة قائمة، وأن المرتكبين سيدخلون السجون حتماً».
ولم يتأخّر ردّ الحريري بنبرة غير مسبوقة كرّستْ «حرق المراكب» مع العهد كما دياب معلناً «العهد ومعه الحكومة اختارا سلوك دروب الكيدية التقليدية والثأر السياسي»، مضيفاً «برافو حسان دياب لقد أبليتَ بلاء حسناً وها أنت تحقق أحلامهم في تصفية النظام الاقتصادي الحر وهم يصفقون لك في القصر ويجدون فيك شحمة على فطيرة العهد القوي»، ومحذراً «لا صدقية ولا أهلية سياسية لأي مسؤول يدخل السرايا وفي جدول مهماته الطعن بكرامة الكبار الذين تَعاقبوا على هذا الموقع الوطني»، ومعلناً «استحضروا الحكومة لمهمة عجزت عنها وحوش الوصاية في عزّ سيطرتها»، ومهاجماً «جنرالات الحروب العبثية».
ولم يحجب هذا الصخب السياسي الأنظار عن فيروس «كورونا» الذي استعاد مسار حصْد الإصابات، ولو المحدودة، إذ سُجلت السبت 8 حالات جديدة رفعت العدد الإجمالي إلى 704 مع حالتي وفاة إضافيتيْن (صار عدد الوفيات 24) وذلك غداة قرار مجلس الوزراء تمديد التعبئة العامة حتى 10 أيار بالتزامن مع اعتماد خطة من خمس مراحل (تتدرّج بين 28 نيسان و8 حزيران) لفتح القطاعات بشكل يراعي المخاطر المحتملة.