Site icon IMLebanon

هل مخاوف المعارضة في محلها؟

كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:

مضبطة الاتهام التي أعلنها رئيس الحكومة حسان دياب بحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لم يجرؤ الرئيس ميشال عون على اتخاذها في السنوات الأولى من عهده، وعندما كان في موقع قوة وعازماً على استبداله من خلفية انّ حاكمية مصرف لبنان يجب ان تكون ضمن دائرة نفوذه.

تجنّب رئيس الجمهورية، في النصف الأوّل من ولايته، خوض مواجهة مفتوحة لتغيير سلامة عندما استحق التجديد له بسبب عوامل عدة: عدم قدرته على فرض البديل، حرصه على العلاقة المميزة مع الرئيس سعد الحريري، تجنُّب الانقسام في مطلع عهده، تلافي إغضاب الأميركيين، حماية الاستقرار المالي، وغيرها من الأسباب التي وجد أنها ستجعله يصطدم بتعقيدات لن يكون من السهل تجاوزها، فتراجع عن سعيه لتغيير سلامة على رغم انه كان في لحظة قوة وبإمكانه تغطية خطوة من هذا النوع متّكئاً على انطلاقة العهد وديناميته.

فماذا عدا ممّا بَدا ليتخذ العهد، وهو في أضعف لحظة سياسية بسبب الأزمة المالية المتمادية، قرار إحراج حاكم مصرف لبنان لإخراجه؟ وما هي الأسباب التي دفعته الى اتخاذ هذا القرار الذي يمكن ان يسرِّع وتيرة الانهيار الشامل؟ وهل وجد انّ عبء استمرار الحاكم أصبح أكبر من إخراجه؟ ولماذا لم يعد التعايش بين السلطة والحاكم ممكناً؟ وهل يعقل أن تضع الحكومة على رأس سلّم أولوياتها المواجهة مع الحاكم، فيما يفترض ان تكون أولويتها إعلان الخطة المالية والبدء بترجمتها؟

وهل من مصلحة الحكومة الدخول في مواجهات سياسية أم التركيز على المعالجات المالية؟

وهل صحيح انّ هناك مَن أقنع رئيس الحكومة بأنّ سيناريو العام 1992، الذي أدى إلى استقالة الرئيس عمر كرامي على وقع ارتفاع الدولار والتحركات الشعبية، يتكرر اليوم في ظل الارتفاع الكبير بسعر الدولار وعودة التحركات الشعبية رغم وباء كورونا، وبالتالي ثمّة من أعطى الضوء الأخضر لتكرار السيناريو نفسه؟

ما يؤكد هذا المنحى في التفكير موقف رئيس الحكومة الذي لم يكتف بتوجيه الاتهامات لحاكم مصرف لبنان، بل وَجّه رسالة إلى كل من يقف خلفه تحت عنوان «فليسمعوني جيداً: «لن نسمح ولن نتهاون مع العابثين الذين يريدون انهيار البلد، ويحفرون الكمائن ويخطّطون للانقلاب». وهذا الكلام يدلّ الى أنّ هناك مَن رسمَ لرئيس الحكومة صورة انقلابية تعدّ ضده من أجل ان يأخذ بصدره هذا الموقف، أو انّ خطوته تندرج في إطار التفاهم الثلاثي الذي يضمّه إلى العهد و»حزب الله» وتم تكليفه بالتنفيذ في هذا التوقيت بالذات الذي يسمح بالتخلّص من سلامة، وذلك من منطلق انّ «صوفة» العهد والحزب حمراء، بينما دياب يستطيع تصدُّر المواجهة في هذا العنوان.

وهناك من يقول أيضاً انّ الكيمياء الشخصية بين رئيس الحكومة والحاكم مفقودة، وانّ ثمة مَن أقنع دياب بأنّ سلامة يشكل جزءاً من مشروع عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة، والذي يشكّل هدفاً لدى ثلاثية بري والحريري وجنبلاط، وانّ الإصلاح المالي غير ممكن من دون الإمساك بمصرف لبنان، وانّ دياب في صلب محور عون و»حزب الله»، وهذا ما يفسِّر بدوره عدم الانسجام بينه وبين بري.

وبمعزل عن كل ما قيل ويقال، لا يوجد ما يفسِّر مواقف رئيس الحكومة العالية النبرة حيال الحاكم إلا في حالة من حالتين: الأولى انّ هناك مَن وضع بين يدي دياب معلومات عن توجّه لاستخدام الدولار من أجل إسقاطه، وهذا ما ليس واضحاً ولا أكيداً بعد. والحالة الثانية انّ هناك مَن نصحَه بأنّ مواجهة سلامة بهذه الطريقة تُعطيه مشروعية شعبية يحتاج إليها في ظل «الشيطنة» التي تعرّض لها الحاكم في الأشهر الأخيرة من قبل فئة من اللبنانيين، فيما يفترض بأيّ رئيس جمهورية او حكومة ان يقول ما قاله دياب لسلامة وربما أكثر، ولكن في الغُرف المقفلة وليس في الإعلام، لأنّ سلامة او اي موظف آخر يشكل جزءاً من تراتبية إدارية تخضع للهرمية المؤسساتية وليس طرفاً سياسياً تتم مواجهته بالإعلام، بل تتخذ التدابير والإجراءات بحقه إذا تبيّن مخالفته للقواعد الوظيفية.

وعدا عن انّ التوقيت المالي للمواجهة مع سلامة ليس موفّقاً في ظل الانهيار المُتدحرج، فهل خطوة الحكومة حيال مصرف لبنان انتقائية، أم انها ستشمل كل إدارات الدولة وقطاعاتها من ضمن الخطة المالية الموعودة، بدءاً من الكهرباء والاتصالات وصولاً إلى الجمارك والمرفأ وغيرها من المرافق العامة؟ وفي حال كانت استنسابية على طريقة تصفية الحسابات السياسية ووقفت عند هذا الحد، فيعني انّ الحكومة او من يقف خلفها قرروا تسريع وتيرة الانهيار الشامل.

لا نقاش بأنّ مصرف لبنان أخطأ في السياسات التي اتّبعها، كما انّ بعض المصارف أخطأت أيضاً في السياسة المالية التي اعتمدتها، ولكن الخطيئة الأصلية تبقى على الأكثرية الحاكمة، وقوة الحكومة تكمن في لجوئها إلى خطوات إصلاحية بالجملة، فيما نقطة ضعفها ودعستها الناقصة وربما «القَاتولية» ستكون في حال لجوئها إلى خطوات انتقائية بالمفرّق للتشفّي السياسي لا الإصلاحي، بخاصة انّ لبنان لا يتحمل في هذه المرحلة الارتجال، فماذا لو استمرّ الحاكم في موقعه ولم تنجح الحكومة بدفعه إلى الاستقالة ورَدّ بالأرقام على دياب؟ فهل يكون الأخير كسب الجولة أم خسرها؟

فالوقت ليس للمواجهات السياسية إنما للمعالجات المالية، وأكبر خطأ تقع فيه الحكومة في حال استدرجت إلى مواجهات من هذا النوع، او اعتمدت هذا التوجّه من تلقاء نفسها، لأنها لا تملك عناصر المواجهة ولا مقوماتها، وهي في أضعف لحظة سياسية بسبب الأزمة المالية التي لا تعالج سوى على قاعدة التبريد السياسي من جهة، والانكباب على معالجة الوضع المالي من جهة أخرى.

وأمّا مخاوف البعض في الخط المعارض من وجود توجهات انقلابية لدى الحكومة فليست في محلها، وهذا لا يعني نفي وجود هذا التوجه لدى بعض مَن في السلطة، إنما لأنّ الأزمة الحالية أكبر من العهد و»حزب الله» وكل القوى السياسية مجتمعة، والوضع اليوم ليس شبيهاً بتسعينات القرن الماضي، فيما السباق القائم على قدم وساق هو في حدّه الأقصى بين إدارة الانهيار الحاصل تمهيداً للخروج منه، وبين العبور إلى الفوضى.

وإذا تَوهّم البعض انّ بإمكانه زيادة نفوذه ورصيده وتسجيل النقاط السياسية، فسيتحمّل مسؤولية انهيار ما تبقى من هيكل الدولة. وإذا كان يظنّ انّ الأزمة المالية تنتهي بخطوة يتيمة عبر إحراج الحاكم فإخراجه، فما عليه سوى ان يبادر سريعاً في هذا الاتجاه، لأنّ الرأي العام سيكتشف سريعاً انّ تعيين حاكم جديد لن ينهي الأزمة التي تتطلّب رزمة خطوات وإصلاحات ومن دونها لا أمل بالإنقاذ، فيما من مصلحة الأكثرية الحاكمة بقاء الحاكم لحَرف الأنظار عن مسؤوليتها الأساسية في الانهيار وإبقاء جزء من التركيز الشعبي عليه، بدلاً من تحويل كل الغضب ضدها، وهذا ما يجعل الاشتباك الحكومي مع الحاكم غير مفهوم إلّا بهدف شَلّه وتعطيله، ولكن من دون إخراجه من موقعه لمضاعفة الغضب ضده ومضاعفة التأييد لدياب.

ويبقى إذا أراد رئيس الحكومة ان ينجح فعليه ألّا يكون جزءاً من معارك غيره، وألّا يكون أيضاً جزءاً من محور ضد آخر، وأن يقود معركة واحدة فقط لا غير وهي معركة إنقاذ البلد بعيداً عن كل الحسابات السياسية.