كتب زكريا حمودان في صحيفة “الجمهورية”:
قد يكون الحديث عن الإنقاذ في لبنان اليوم أجدى من التجاذبات السياسية التي باتت محوراً أساسياً في عمل كثير من القوى السياسية. أمّا في العمل التنفيذي، فكما منذ «اتفاق الطائف» حتى يومنا هذا، وفي المستقبل القريب والبعيد، لا يمكن إنقاذ هذا الوطن من دون التوجّه اليوم قبل الغد نحو تطبيق اللامركزية بكافة أشكالها. ومن أحد أهم أشكال اللامركزية، اللامركزية الإقتصادية التي تساهم في بناء دورة اقتصادية صحيحة.
لبناء دورة اقتصادية سليمة يجب التوجّه نحو لامركزية صناعية بالتزامن مع لامركزية زراعية تستطيع النهوض بالاقتصاد اللبناني من جهة، وفي تعزيز الصناعات الزراعية من جهة أخرى. وللوقوف عند الأسباب الموجبة للاهتمام بتطبيق اللامركزية الإقتصادية، نستعرض في الرسم التوضيحي الرقم 1 تَوزّع الواردات اللبنانية من الخارج. وكما يظهر الرسم التوضيحي، فإنّ النسبة الأكبر من الواردات هي من المواد الغذائية والزراعية بنحو 23 %، مقابل 20 % من مشتقات نفطية و17 % مواد ومعدات صناعية، في المقابل 10 % من الأدوية والمواد الطبية و6 % من المعدات الإلكترونية، و7 % من الآليات والسيارات بالإضافة إلى نحو 17 % من مواد مختلفة غالبيتها غير متوافرة في الداخل اللبناني.
إذا ما أردنا التدقيق في مضمون الواردات، فعلينا التركيز على الأرقام التي نستطيع أن نجد البديل لها في الداخل اللبناني، بالتزامن مع خطة صناعية بديلة تعتمد على اللامركزية التي تحدثنا عنها من أجل تصويب المسار الحقيقي للامركزية الإقتصادية التي نرتكز عليها في هذه الدراسة. إنطلاقاً من الأرقام المذكورة في الرسم التوضيحي الرقم 1، يمكننا القول إننا أمام فرصة تاريخية لتوفير نحو 60 % من الاستيراد وتحويله إلى اقتصاد محلي عبر عدد من الخطط اللامركزية التي سنتطرق اليها تدريجاً.
المواد الغذائية والزراعية الجزء الأكبر من قيمة استيراد المواد الغذائية والزراعية يمكن تحويله إلى الداخل البناني المتنوّع على مستوى المناخ والمساحات والصناعة. ففي حين يستورد لبنان نحو 1.47 مليار دولار من المواشي واللحوم ومشتقات الحليب من الخارج (نسبة 7 % من إجمالي الإستيراد)، يمكن التركيز على تعزيز الإجراءات التي تسمح بفتح المزارع على أنواعها في الأقضية التي تتميّز بطبيعة تسمح لها بذلك، كعكار والبقاع وقضاء الضنية حيث المساحات الشاسعة المهملة، إلى جانب تعزيز صناعة علف هذه المزارع شرط أن تضمن الدولة استيراد المواد الأولية والأساسية غير المتوافرة على عاتقها، بالإضافة إلى الإعفاءات الضريبية وتحديد نظام العمالة من أجل دعم اليد العاملة المحلية وتقديم المشاعات لاستثمارها ضمن عقود استثمار تشجيعية. هذا الأمر سيسمح لنا بالتحوّل من استيراد مفرط في اللحوم والألبان والأجبان إلى استيراد المواد الأساسية لتأمين العلف أو لتأمين تصنيعه.
وكما يظهر الرسم التوضيحي الرقم 2، يمكننا توفير نحو 5 % من أصل 7 % من استيراد اللحوم ومشتقات الحليب والعلف.
التحول من المدينة إلى الأطراف في إطار الحديث عن إحداث هذه المصانع والمزارع حيث يجب أن تكون ضمن الأقضية المختلفة، وضمن بنية عمل منتظمة تحددها وزارة العمل، سيعود عدد كبير من النازحين سابقاً من الأقضية نحو المدن، سواء للاستثمار في مناطقهم الأصلية من جهة، أو للعمل في هذه المصانع المستحدثة.
هذه الهجرة العكسية للسكان من المدن في اتجاه الأرياف ستعيد الاكتظاظ في تلك المناطق وتخفّف الاكتظاظ السكاني في المدن، الأمر الذي سيستدعي أن تقوم الدولة من خلال الإدارات المحلية اللامركزية التي يجب إحداثها بتأمين الخدمات الآتية:
1 ـ مستشفيات مجهزة بنحو كامل ومناسب لعدد سكان هذه المناطق.
2 – مراكز تربوية حكومية (مدارس، معاهد تقنية، ثانويات وجامعات) تتضمن عدداً من المقاعد يتناسب مع عدد السكان، بالإضافة إلى قطاعات تعليمية تتناسب مع حاجات المنطقة خصوصاً.
3 – بنية تحتية متكاملة وتتناسب مع حاجيات المنطقة، وعبر الإدارة المحلية للمنطقة والتي تَعي أكثر بكثير من وزارة الأشغال المركزية والتي تتضمن صبغة طائفية محددة مُرفقة بصبغة مناطقية، تعززها صبغة سياسية تجسّد عمل مختلف الوزارات في لبنان.
العودة إلى الجذور يعزّز مختلف القطاعات عندما نتحدث عن العودة إلى الجذور للاستثمار أو العمل في صناعة مشتقات الحليب والعلف وفتح عدد كبير من المزارع، هذا الأمر يدفعنا أيضاً الى الحديث عن شق كبير وواسع من القطاعات المهملة والتي تكبّد الدولة خسائر كبيرة، وهو قطاع الزراعة الذي يفتح أفقاً واسعاً جداً على عدد من القطاعات الإنتاجية والصناعية.
فمن الزراعة نتجه نحو توفير الاستيراد الزراعي من جهة، تعزيز التصنيع الزراعي من جهة ثانية، توفير استيراد الصناعات الزراعية، تأمين فرَص عمل متنوعة تبدأ باليد العاملة في الأراضي الزراعية وتنتهي بالمهندسين الزراعيين الذين يفتقدون الى العمل في وطنهم، وما أكثرهم، يبدعون خارج لبنان. ولتعزيز الزراعة في لبنان يكفي اعتماد النقاط الآتية:
1 – إصدار تشريعات تحمي المزارع اللبناني، خصوصاً على مستوى اتفاقية تيسير التجارة العربية، بحيث يجب على الدولة أن تضع رسوماً محددة توازن بين قيمة المنتج اللبناني والمنافس له خارجياً.
2 – تنظيم الزراعة على مستوى الإدارات المحلية اللامركزية، بحيث يعمل كل قضاء على وضع الرؤية الزراعية التي تتناسب مع المنطقة الجغرافية.
3 – تأمين مواد الزراعة الأولية بأسعار مدعومة من الإدارات المحلية التي تتمتع بلامركزية مالية تحددها طبيعة النظام اللامركزي.
4 – تحديد وزارة الإقتصاد لسقف الأسعار التي تتناسب مع القيمة الإنتاجية لكل منتج، الأمر الذي يلجم التفلت في الأسعار.
5 – تأمين تسهيلات التصنيع الزراعي خصوصاً في الأطراف، الأمر الذي سيساهم في زيادة اليد العاملة من جهة، ونقل اليد العاملة كما ذكرنا سابقاً من المدن في اتجاه الأرياف.
من تعزيز وجود المزارع والتصنيع في مجال الأعلاف ومشتقات الحليب نؤمّن توفير نحو 5 % من الإستيراد، وصولاً إلى تعزيز الزراعة والتصنيع الزراعي الذي يوفّر بدوره تأمين مداخيل أساسية للصادرات اللبنانية بالإضافة إلى تخفيف نسبة من الاستيراد، سواء على مستوى استيراد المزروعات من خضار وفواكه أو الصناعات الزراعية التي تستحوذ حيّزاً كبيراً من الصناعات في العالم، يمكننا القول إننا ومن نسبة 23 % من الاستيراد من مواد غذائية وزراعية على خلافها، يمكننا توفير أكثر من نصفها على أقل تقدير خلال مدة عامين، إلى أن نصل إلى توفير نحو 80 % من استيراد هذه المواد الغذائية والزراعية لينحسر استيرادنا على بعض الأنواع المحددة التي يستحيل تأمينها أو الثانوية منها كالكماليات الباهظة الثمن، كما أننا قد نستطيع أن نصدّر من منتجاتنا بعد نحو 5 سنوات في حال اعتمدنا سياسة لامركزية منظمة، تحمي المستثمر وتؤمن حقوق المواطن.
خلاصة من خلال تناولنا لفرع واحد من الرسم التوضيحي الرقم 1 إستطعنا توفير نسبة تزيد عن 50 % من هذا الفرع، بذلك نجد أننا أمام فرص متعددة لبناء مستقبل واعد في لبنان، ينطلق من تطبيق لامركزية منظمة تحتوي على ديموقراطية مدنية، ولامركزية مالية، بالإضافة إلى لامركزية إنمائية شاملة.
والجدير بالذكر أنَّ بقية الفروع التي تم ذكرها في الرسم التوضيحي الرقم 1 يوجد لها دراسات متعددة من أجل تحويلها من قطاعات تعتمد الإستيراد الكامل، إلى قطاعات إنتاجية وطنية ضمن خطة لامركزية، تعزز الصناعة وتشمل معها الكثير من القطاعات الداخلية. • (مدير المؤسسة الوطنية للدراسات والإحصاء)