لم تكد الحكومة تعلن في جلستها الشهيرة يوم الجمعة الماضي خفض الاجراءت المتخذة ضمن قرار التعبئة العامة الممدد لاسبوعين اضافيين، حتى عاد الثوار الى الطرق، فقطعوها ليلا واحرقوا الاطارات المشتعلة مدعمين بأكثر مما انزلهم الى الشارع في 17 تشرين، وبأبعد مما فجر غضبهم آنذاك. فسعر صرف الدولار الاميركي كان يومها مستقرا، ولو انه في حقيقة الامر لم يكن كذلك، واسعار السلع الغذائية كانت نصف ما هي عليه اليوم ونحو 50 في المئة من الشعب كان يملك “نعمة” الوظيفة. المعادلة انقلبت رأسا على عقب، والسلطة السياسية، قبل المالية على الارجح، اتخذت قرار الانقلاب بذريعة تلبية مطالب الثورة التي رفعها رئيس الحكومة حسان دياب شعارا، حينما وعد اللبنانيين بمن وسلوى تنقية الدولة من الفاسدين وتحقيق الحلم . والاخطر ان من اعدّ المخطط الانقلابي، وضع ضمن دائرة اهدافه الثورة كأحدى ادوات تحقيق ما يصبو اليه.
تفاصيل السيناريو- الخطة بدأت تتكشف في اعقاب كلمة الرئيس دياب الشهيرة التي فتح فيها النار على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فنظم مضبطة اتهام واصدر حكمه المبرم بالاعدام من دون ان يمنح المتهم حق الرد او الدفاع عن النفس، والاخطر انه اقحم حكومته المفترض انها “اختصاصية مستقلة” في حرب انتقامية مدفوعة بحمى ثأرية لتصفية حسابات بين قوى سياسية محلية واقليمية. مقدمة حرّك في ضوئها، معدو الخطة ادواتهم في الشارع تنفيذا للنقطة ب. تظاهرة امام مصرف لبنان تهتف “شيعة شيعة” مغلفة بعنوان الثورة، التي تضع سلامة في دائرة من يتحملون مسؤولية ما آلت اليه اوضاع البلاد، ولكن كأحد المطلوب محاسبتهم وليس الوحيد، كما تحاول السلطة السياسية ان تقنع اللبنانيين بتحميله وزر عقود من الفساد ونهب المال العام. رمي قنابل مولوتوف على فروع المصارف في مناطق نفوذ القوى المتحكمة بالحكومة باسم ” محكمة الثورة المسلحة”، وقد سارعت مجموعات الثوار في المناطق كافة الى الرد ونفي اي صلة لهؤلاء بالثورة السلمية معتبرين ان بعض احزاب السلطة يقف خلف هذا العمل، داعية الاجهزة الامنية الى التقصي عمن يقف خلفها ويحركها.
دغدغة مشاعر الثوار بورقة رياض سلامة ساقطة سلفا، تقول اوساط في الثورة لـ”المركزية”، كما محاولة الفريق المعارض استغلال الثورة لرد هجوم السلطة بدعوة مناصريه للتحرك في الشارع. فالثورة ليست منبرا للسياسيين الذين عاثوا بالبلاد هدرا وفسادا ونهباً، وهم اليوم يحاضرون بالعفة. وقد تمرسوا في الخبرة السياسية والمخابراتية والامنية في لبنان والخارج على مدى اكثر من 40 عاماً، لذا سيعمدون على الارجح الى تصفية حساباتهم باسم الثورة وتظهيرها غير سلمية لتشويه صورتها اولا وتحقيق مآربهم الدنيئة ولو بقوة السلاح عبرها ثانيا. هذا المخطط، يواجه بوسيلتين، إما الناي بالنفس والاعلان ان الثورة لا تمت الى كل هؤلاء بصلة وتاليا فليصفوا حساباتهم بعيدا منها وبأي طريقة يريدون، علما ان كل طرقهم في هذا السياق “وسخة” كما اثبتت التجربة الحديثة، والا اعلان رفض كل ممارساتهم هذه، والتأكيد مجددا ان الثورة السلمية الحضارية التي اظهرت وجه لبنان المشرق في اكثر من محطة لن تقبل بما تفعل الطبقة السياسية بلبنان وشعبه، خصوصا اذا عادت الى لعبة التخريب المسلّح على غرار ما فعلت في العام 2005 للتخلص من بعض الخصوم في السياسة، وما القاء القنابل على بعض المصارف الا احد اوجه هذا الخيار. هذا السلاح اذا لم تعلن الثورة رفضها له قد يرتدّ عليها في اي لحظة ويطيح بالبلد الذي تناضل لاجل بنائه على اسس جديدة تليق بطموحات شبابه، فإذا استسلمت لقواعد لعبتهم هذه تنتفي اهدافها.
وتبعا لذلك، تقف الثورة عند مفترق خطير، يحتّم على قياداتها اتخاذ قرار حسن توجيه البوصلة لئلا تضيع في غياهب تصفية الحسابات بين السياسيين فتصبح هي كبش المحرقة، ويبقى الفاسدون في مواقعهم.