كتبت راكيل عتيِّق في صحيفة “الجمهورية”:
عند كلّ نزاع أو خلاف سياسي – إداري يُطاول موقعاً دستورياً أو وظيفة عامة بارزة «مُخصّصين» بحسب الدستور أو القانون أو العرف للمسيحيين، وتحديداً منهم الموارنة، تُسأل البطريركية المارونية عن موقفها. إذا صمتت ولم تتدخّل تُتّهم بعدم الدفاع عن وجود المسيحيين وموقعهم في الدولة وبالتخلي عن دور بكركي التاريخي، وإذا تكلّمت مباشرةً أو إشارةً، تُتّهم بالتدخل في الشأنين السياسي والإداري. حتى البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير، الذي يحظى بمكانة خاصة لدى اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً للدور الوطني الكبير الذي أدّاه في أكثر من لحظة سياسية، لم يَسلم من هذه الإتهامات، خصوصاً عندما رفض مجاراة قوى 14 آذار بإسقاط الرئيس إميل لحود في الشارع.
على رغم من أنّ لبنان دولة مدنية، لا يُمكن فصل شؤون السياسة والإدارة عن الطوائف وممثليها الدينيين والسياسيين، تحت عنوان «الحفاظ على الحقوق». ففي ظلّ النظام والدستور الحاليين، وفي ظلّ «الفدرالية الطائفية» المقنّعة، حيث تحكم الميثاقية أيّ عمل مؤسساتي، وحيث تُقسّم المراكز والوظائف طائفياً، بدءاً برئاسة الدولة، لا يُمكن حجب تأثير المراجع الدينية على قرارات سياسية وإدارية عدة، لا سيما منها ما يُعتبر متعلقاً بالتوازن الطائفي.
التدخل «الطائفي» جزء من التركيبة القائمة، ولن يتحلّل إلّا بتفكّك هذه التركيبة، والوصول الى دولة مدنية «بحت»، لا تراعي أيّ «حقوق» أو توازنات أو تقسيمات دينية وطائفية ومذهبية، وحيث يُعيّن الموظّفون استناداً الى كفاياتهم وخبراتهم بلا أيّ اعتبار طائفي، ويُعتمد قانون مدني موحّد للأحوال الشخصية، ولا يكون هناك رجال دين موظفين في الدولة ويتقاضون رواتبهم أو مستحقاتهم منها… ويُنشأ مجلس الشيوخ الذي يحمي الأقليات كلّها وفق ما ينصّ عليه الدستور، ويُنتخب مجلس النواب خارج أيّ قيد طائفي.
الى ذلك الحين، سيستمرّ كثيرون في «الاحتماء» خلف مرجعياتهم الدينية ومطالبتها بالدفاع عن حقوقهم ومراكزهم ووجودهم في الدولة، بالتوازي مع استمرار رفض آخرين لهذا الأمر.
ومع تصاعد وتيرة الدعوة الى محاسبة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، إتهم البعض بكركي بالتقاعس في الدفاع عن هذا الموقع الإداري ـ المالي «الماروني» المهمّ والحساس. وبعد أن أعلن البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي موقف بكركي الأحد الماضي، مباشرةً وفي وضوح، خرجت أصوات تعتبر هذا الموقف «تدخلاً دينياً في الشأن السياسي والإداري»، و»خطاً أحمر طائفياً استباقياً يحول دون إجراء المحاسبة اللازمة ومحاكمة المرتكبين».
وكان الراعي قد قال: «إننا فيما كنّا ننتظر من رئيس الحكومة إعلان الخطة الإصلاحية… وخطة المراقبة العلمية والمحاسبة لكلّ الوزارات والإدارات والمرافق العامة، إذا بنا نفاجأ بحُكم مبرم في حق حاكم مصرف لبنان، من دون سماعه وإعطائه حق الدفاع عن النفس علمياً، ثم إعلان الحكم العادل بالطرق الدستورية». ورأى أنّ «الشكل الاستهدافي الطاعن بكرامة الشخص والمؤسسة التي لم تعرف مثل هذا منذ إنشائها في عهد الرئيس فؤاد شهاب، غير مقبول على الإطلاق».
وإذ سأل الراعي: «من المستفيد من زعزعة حاكمية مصرف لبنان؟.. وهل هذا النهج المغاير لنظامنا السياسي اللبناني جزء من مخطّط لتغيير وجه لبنان؟»، اعتبر «أنّه يبدو كذلك».
وتؤكد بكركي أنّ «معطيات جدية يمتلكها البطريرك عن أنّ هناك خلفيات وأبعاداً للنيل من سلامة تصل الى تغيير النظام، هي التي دفعته الى إطلاق موقفه هذا، فضلاً عن الأداء السياسي والحكومي الواضح في هذا المجال، فالبعض أعلن موقفه بجرأة وعلناً داعياً الى إقالة سلامة فوراً وببساطة». وتقول مصادر بكركي إنّ «البطريرك لا يدافع عن سلامة لأنّه ماروني. فبكركي لا تتكلّم طائفياً بل وطنياً، وبالمبادئ والأصول». وتؤكّد أنّ «بكركي لم تمنع إقالة سلامة أو محاسبته، لكنها ذكّرت بأنّ هناك أصولاً وقانوناً ودستوراً ومحاسبة وحق دفاع عن النفس». وتسأل: «هل سلامة وحده المسؤول عن الخراب؟ وهل هو سيّد مُطلق في موقعه؟».
وتشدّد على أنّ «بكركي لا تضع خطوطاً حمراً طائفية ولا تغطّي أي مرتكب لأيّ طائفة انتمى». وتقول: «فلتطاول المحاسبة الجميع، كلّ من تَورّط وتدخّل وحرّض وضغط وأصدر أوامر». وتضيف: «إذا أخطأ سلامة فليُحاسب، ولكن بعدل، لا أن نصل الى التحقير والإهانة بالطريقة التي حصلت».
موقف الراعي الأخير، في ما يتعلّق بتعامل الحكومة برئاسة حسان دياب مع سلامة، لا يُفسد في الود قضية بين البطريركية ودياب، ولا يعني أنّ هناك خلافاً بينهما، بحسب مصادر بكركي التي تشير الى أنّ «الراعي دعم الحكومة وشجّعها، وطلبَ إعطاءها فرصة في وقتٍ كان الجميع ينتقدها ويطالب برحيلها ويريد إسقاطها». وتلفت الى أنّ الراعي «مثلما أضاء على مكامن القوة في هذه الحكومة وعلى أدائها الجيّد، سلّط الضوء أيضاً على أنّه ليس بهذه الطريقة تُصدر الأحكام».
إنّ أيّ موقف للراعي على الصعيد الوطني والعام، ينطلق من أنّ البطريرك «مؤتمن على الأداء الوطني السليم، وحين يرى استقامة في العمل السياسي ينوّه بها، وحين يلمس بعض الانحراف، يقضي دوره أن يصوّبه». وإنّ عمل البطريرك هذا «وطني وليس سياسياً»، بحسب ما تُشدّد مصادر بكركي، مؤكدة أنّ «الراعي لا يتدخّل في السياسة»، ومذكّرة أنّ «هذا هو دور بكركي عبر التاريخ، والراعي يُكمل الدور الذي أدّته سلسلة البطاركة الموارنة في لبنان».