دخل لبنان فعلياً في المواجهة المباشرة بين السلطة والمعارضة، بالتزامن مع عودة التحركات الى الشارع على خلفية الأوضاع المعيشية المتردية، ما ينبئ بمرحلة شديدة الخطورة في غياب أي ضوابط إقليمية او دولية. رئيس الحكومة حسان دياب اطلق شرارة المواجهة، الجمعة الماضي، بالهجوم على حاكم مصرف لبنان، ما استنفر الجبهة المعارضة، لاسيما تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي، اللذين استشعرا ان هناك حرب الغاء تُشن ضدهما، مُدعمين بموقف رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي حذر من أن اقالة سلامة ستوصل سعر صرف الدولار الى 15 الفا، وسينجم عنها خسارة اللبنانيين لودائعهم.
يخشى المراقبون من خروج هذه المواجهة عن اطارها السياسي، لاسيما مع عودة الاحتجاجات وقطع الطرقات، ما قد يشكل فرصة للاستثمار السياسي فيها من قبل كل القوى. ولا يختلف اثنان من اللبنانيين بأن «أمين المال» يتحمل جزءا من المسؤولية عن الانهيار المالي. غير ان فئة تعتبر ان الهجوم على سلامة يهدف الى احكام قبضة الثنائي الحاكم (حزب الله التيار الوطني الحر) على لبنان ماليا، بعد تثبيت نفوذه سياسيا من خلال حكومة اللون الواحد. تتقاطع مصلحة الثنائي في انتزاع اعلى منصب مالي في الدولة وان اختلفت الغايات. فـ«التيار الحرّ» وضع نصب عينيه السيطرة على حاكمية مصرف لبنان بهدف إزاحة سلامة عن رادار المرشحين لرئاسة الجمهورية. ولحزب الله، حسابات مختلفة، تتمثل بأن «إزاحة سلامة هي معركة وجودية بالنسبة للحزب» الذي يعتبره رجل الولايات المتحدة في لبنان والمؤتمن على تنفيذ سياساتها العقابية. وتلفت مصادر مصرفية الى أن تصعيد حزب الله معركته على سلامة وتحريك بعض الصرافين المحسوبين عليه وغير المرخصين لرفع سعر صرف الدولار وشرائه، وكذلك استهداف المصارف بالمولوتوف، حصل بالتزامن مع تحرك السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا لكبح الاندفاعة ضده.
اما المعارضة، فهي غير منضوية حتى اليوم في تحالف معلن، وتفاوتت ردود افعالها على الحكومة. تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي كانا الأعنف في الهجوم المضاد فيما وازن حزب القوات اللبنانية في تحميل المسؤولية لسلامة والسلطة السياسية معا. في وقت تسعى هذه المعارضة الى استقطاب قسم من الشارع المنتفض وتجييره لمصلحتها. المرجعيات الدينية دخلت هي الأخرى على خط الصراع. فتحولت الدعوة التي اطلقتها دار الفتوى لاطلاق حملة من اجل جمع التبرعات لمساعدة المحتاجين، الى مناسبة للرد على رئيس الحكومة الذي «يقود السيارة وهو ينظر الى الخلف و«رح يفوت بالحيط» على حد قول النائب نهاد المشنوق الذي رأى ان «هناك مؤامرة على السنية السياسية». اما البطريرك الماروني بشارة الراعي، فذهب أبعد من الدفاع عن رياض سلامة، معتبرا ان الحملة عليه تستهدف الانقلاب على النموذج اللبناني. وتزامناً مع الذكرى الـ15 على انسحاب الجيش السوري من لبنان، يحذر سياسيون واقتصاديون من تغيير يستهدف تغيير نظام لبنان ليصبح على شاكلة دول محور الممانعة. وسط هذه العواصف كلها، يجهد اللبناني من اجل تأمين لقمة عيشه بعدما تخطى سعر صرف الدولار حدود الـ4 آلاف ليرة، وتراجعت القيمة الشرائية الى أكثر من %60 جراء انفلات الاسعار بشكل جنوني. ورغم اجراءات التعبئة العامة التي فرضها انتشار فيروس كورونا، عاد المحتجون بقوة إلى الشارع وقطعوا معظم الطرقات بعد ان بات الفقر يتهدد اكثر من 55 في المئة من اللبنانيين. مدير معهد الشرق الأوسط للشؤون الاستراتيجية الخبير الاقتصادي سامي نادر، يتخوف من ان يكون لبنان قد دخل في المجهول. ويقول في اتصال مع القبس ما يحدث اليوم ان لبنان في «سقوط حر» من دون اي مظلة، والجوع زحف فعلا الى الطبقات الفقيرة وتلك التي كانت تعتبر متوسطة. لافتا الى ظاهرة «كرتونة الاعاشة» التي توزعها بعض الجمعيات والاحزاب، كاشفاً أن «اساتذة في الجامعات» يطلبون هذه الاعاشات. ويعتبر نادر ان لا معالجة ممكنة في لبنان من دون صندوق النقد الدولي، معرباً عن عميق قلقه على وضع لبنان في غياب الادارة والفقر والانقسام السياسي، ويخلص الى ان «هذه هي أدوات الحرب». وبالفعل بات الناس يتحسرون على «ايام الحرب» رغم بشاعتها، فالقطاعات المنتجة متوقفة عن العمل، المغتربون أوقفوا التحويل، السيولة غير متوافرة، ومصرف لبنان يستحوذ على كل دولار يدخل.. كل ذلك يؤشر الى سيناريو أسود يخيم.