كتب رضوان مرتضى في صحيفة “الأخبار”:
لم تتكشّف بعد كل فصول فضيحة الفيول المغشوش. نفط فاسد تسبب بأعطال في شركة الكهرباء على مدى سنوات، بموجب عقد جرى توقيعه عام ٢٠٠٥ يوم كان فؤاد السنيورة رئيساً للحكومة ومحمد فنيش وزيراً للطاقة والمياه، قبل أن يتكشّف أنّ وراءه موظفين ومديرين عامين وأصحاب شركات، وربما وزراء، تواطأوا لنهب المال العام وحرمان اللبنانيين من الكهرباء. لدى النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون تقرير يفيد بأنّ إحدى الشحنات التي وصلت الصيف الماضي ليست سوى نفايات نفطية، وتقرير آخر يفيد بأنّ الشحنة تحتوي على نفط يتضمن نفايات كيميائية. أما الحكاية فتبدأ من العقود، إذ إنّ العقد أُبرم مع «سوناطراك ــــ الجزائر»، إلا أنّ المال صار يُدفع لاحقاً لشركة أخرى تحمل اسم «سوناطراك بريتيش فيرجين آيلاند»، وهي شركة «أوف شور» مقرّها بريطانيا. لكن هذه قصة أخرى.
لم تنته التحقيقات بعد في فضيحة الفيول المغشوش، إلا أنّ الرؤوس المدبّرة والمتورطة تمكنت من الهرب والاختباء، فيما كان عناصر فرع المعلومات يوقفون موظفين ومسؤولين صغاراً في المنشآت النفطية التابعة لوزارة الطاقة والمياه مشاركين في الفضيحة. فهل سيبقى الموظفون الكبار الذين أبرموا الصفقات وطلبوا التلاعب بالتحليلات وتزوير التقارير خارج القضبان؟ رغم أنّ التحقيقات بيّنت أنّ قصة التلاعب قديمة، لكنّها انكشفت أخيراً بسبب ازدياد عمليات الغش. على سبيل المثال، تشير مصادر قضائية إلى أن رئيس المنشآت النفطية سركيس حليس، أحد أبرز المشتبه فيهم في هذا الملف، أقفل هواتفه وغادر منزله إلى جهة مجهولة ليتوارى عن الأنظار. وقد ادّعت القاضية عون، التي تُشرف على التحقيقات الجارية، على ٢١ شخصاً في الملف، وسطّرت أربعة بلاغات بحث وتحرٍّ بحق أربعة مشتبه فيهم رئيسيين في الفضيحة: حليس وصاحب شركة Zr المفوّض بالتوقيع عنها تيدي رحمة ومديرها العام ابراهيم الذوق ومدير المناقصات جورج الصانع. كما ادعت على المديرة العامة للنفط أورور فغالي وأصدرت ١٤ مذكرة توقيف وجاهية بحق ١٤ موظفاً بموجب جرائم التزوير واستعمال المزوّر وقبض رشى وتبييض أموال واحتيال وصرف نفوذ. وأتى الادعاء بعدما طلبت عون إذن ملاحقة من وزير الطاقة ريمون غجر بحق كل من الفغالي وحليس إثر تغيبهما عن جلسة استماع في القضية، موضوع الإخبار المقدم من المحامي وديع عقل، رغم أنّهما تبلغا بموعدها وفق الأصول.
وعلمت «الأخبار» من مصادر مطّلعة على إفادات الموقوفين انكشاف دور كبير للذوق الذي كان يطلب تغيير نتائج تحاليل العيّنات في المختبرات. وفيما توارى الذوق عن الأنظار أيضاً، عادت الفغالي وحضرت إلى التحقيق، وتركتها عون رهن التحقيق. وهي نفت أي علاقة لها بالمختبرات أو تزوير التقارير والتلاعب بها. وعلمت «الأخبار» أنّها أبلغت المحققين أنّها كانت تأخذ «هدية» سنوية من الشركة على عيد الميلاد عبارة عن ذهب أو حقيبة نسائية، مشيرة إلى أنّ هذا النوع من الهدايا كان يصل إلى معظم الموظفين. أما الموقوفون الآخرون الذين يبلغ عددهم ١٧، فمعظمهم موظفون في المنشآت النفطية. فقد اعترف بعضهم بقبض رشى من «سوناطراك». وكشفت مصادر التحقيق أنّ التلاعب طاول عدداً من عمليات استيراد الفيول، مشيرة إلى أنّ عدداً من الموظفين كانوا يتقاضى الرشى بشكل دوري بما لا يقل عن ١٠ آلاف دولار للموظف. يستعيد مصدر مطّلع على التحقيق، على سبيل التندّر، إفادة أحد الموقوفين من منشآت الزهراني الذي أبلغ المحقق أنّه لم يجمع سوى ٦٠ ألف دولار، فيما جمع آخرون مئات آلاف الدولارات.
ونقلت مصادر قضائية لـ«الأخبار» أنّ التحقيق ينقسم إلى جزءين، الأوّل يتعلّق بتحديد المسؤولين عن إبرام العقد مع شركة لا يُعرف عنها شيء، علماً بأنّ العقد جرى توقيعه عام ٢٠٠٥ على اعتبار أنّه سيكون لمدة ٣ سنوات قبل أن يُصار إلى تمديده دورياً، والثاني يركز على المتلاعبين بالتقارير، متحدثة عن وجود تقارير من منشآت الزهراني وتقارير من إحدى الدول تؤكد مطابقة العينة للمواصفات المحددة، لكنه في الحقيقة لم يكن مطابقاً، ما يعني وجود تواطؤ وتلاعب على مستويات كبيرة.
كذلك تشير المعلومات إلى أنّ هناك تلاعباً في أصل إبرام العقد الذي وُقِّع على أساس أنه من دولة لدولة، قبل أن يتبين أنّ الشركة لا تورّد الفيول مباشرة، إنما تكلّف شركات أخرى باستجراره من دون مراعاة المواصفات. وتكشف التحقيقات وجود تلاعب بالفواتير وتزوير في تقارير الكشف على الفيول للزعم بأنها مطابقة للمواصفات. وهذا لا يمكن أن يحصل من دون دفع رشى. وهنا قسمان من الرشى. الأولى تُدفع في المنشآت للتلاعب بالمواصفات، والثانية للمخلّصين الذين يدخلون الفيول إلى لبنان.
تجدر الإشارة إلى أنّ أول خيوط فضيحة الفيول المغشوش ظهرت إلى العلن منذ نحو سنة عندما تعطّلت الماكينات ليبدأ الحديث عن نفط مضروب أو فاسد. في الشحنة الأخيرة، التي خلص الفحص الرسمي أنها مطابقة للمواصفات، بيّن الفحص الذي أجرته كل من شركة كاريدنيز المشغلة للبواخر وشركة MEP المشغّلة لمعملَي الزوق والجية، في دبي، أن العيّنة غير مطابقة لمعايير الجودة. وهو ما أقرّت به الشركة لاحقاً، عارضة سحب الشحنة. غير أنّ غادة عون ارتأت التوسّع بالتحقيق، ولا سيما بعدما توصّل النائب العام المالي علي ابراهيم إلى عدم وجود هدر مال عام لكون الفيول الموجود لم تدفع الدولة ثمنه، أضف إلى ذلك تعهد الشركة المسؤولة بجلب فيول مطابق للمواصفات. لذلك أحال الملف إلى النيابة العامة الاستئنافية.
تشير المعلومات إلى تلاعب في العقد الذي وُقِّع على أساس أنه من دولة لدولة
يقول مقدم الإخبار المحامي وديع عقل لـ«الأخبار»: «هناك فضيحة تتعلق بكيفية نقل المسؤولية من البائع إلى الشاري». يتحدث عن خمس شركات دولية جرى تعيينها للكشف على الشحنة أثناء إفراغها، لها وحدها (أي الشركات الخمس) حصرية إصدار إفادة عن الكمية والنوعية قبل ختمها. غير أنّ عقل يكشف عن باخرة اسمها «بالتيك» لديها إفادة من شركة في مالطا، وهي من خارج الشركات الخمس المنصوص عليها في العقد. ليس هذا فحسب، إذ إنّ الشركة المالطية أجابت بأنها لا تعرف «سوناطراك»، إنما قبضت التكاليف من شركة ZR energy. وهذا من شأنه أن يفتح مساراً موازياً في التحقيقات.
تجدر الإشارة إلى أنّ الموقوفين هم: مديرة مختبرات بيروت في المنشآت النفطية ديما ح. والمكلف بالتوقيع على نتائج التحليل ريمون ع. ومدير المناقصات جورج ص.، والذي يوصف باليد اليمنى لسركيس حليس وميرنا خ. ومن مختبرات طرابلس، أوقف محسن غ. وروجيه ع. ول. ح. فيما أوقف من مختبرات الزهراني كل من: رفعت ع. وش. ج. كما أوقف طارق ف. الذي يقدم نفسه على أنّه ممثل شركة «سوناطرك»، لكنه ليس مفوّضاً بالتوقيع عنها.
أمس، أُحيل الملف إلى قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان نقولا منصور الذي يُنتظر بدء تحقيقاته قبل إعادة الملف إلى النيابة العامة للمطالعة.