على مدار الـ140 سنة الماضية، كان حرق الفحم لتوليد الكهرباء العمود الفقري للتنمية الاقتصادية، حيث دعم التحول الصناعي وأصبح أساسا للتحسن المتسارع للمستوى المعيشي.
قبل فترة تزيد قليلا عن 100 عام فقط، أسفر اكتشاف النفط في الشرق الأوسط عن إحراز تقدم مماثل في مستوى المعيشة، إضافة إلى تراكم الثروة لدى المجتمعات المحلية، والآن يدعم النفط الاقتصاد العالمي إلى درجة حتى أن التخلي عن اعتمادنا عليه يبدو أمرا شبه مستحيل، بحسب ما جاء في تقرير لموقع Sustainability Times الأميركي.
وبالطبع، فإن هذا النمو الاقتصادي القائم على الوقود الأحفوري أصبح ممكنا بفعل زيادة كثافة الطاقة بمقدار 2-3.5 أضعاف، مقارنة بحرق الأخشاب لتلبية احتياجاتنا من الطاقة.
وبفضل التنمية الاقتصادية التي شهدتها البلدان المتقدمة لاحقا، أصبح بوسع مواطنيها أن يكونوا أكثر وعيا من الناحية البيئية، وهذا الأمر جيد. لكن مع ذلك، بقيت أجزاء كبيرة من العالم على هامش هذا التطور الرهيب، حيث تزايد التباين في الثروة إلى درجة أن الدول الإفريقية والعديد من الدول في آسيا ستواصل اعتمادها على الدعم التي تتلقاها من البلدان المتقدمة.
في الواقع، يمكن القول إن الافتقار إلى الطاقة يبقى العامل الرئيس المقيد للنمو الاقتصادي الذي يواجه العالم النامي اليوم.
لو كان ذلك التحدي الوحيد الماثل أمام العالم النامي، لكان من السهل نسبيا التغلب عليه. لكن الوقود الأحفوري وبالرغم من كل الإنجازات المحققة بفضل استخدامه، تسبب بعواقب وخيمة على البيئة، بما في ذلك تحمّض المحيطات والتغيرات في المناخ التي أدت إلى تزايد عدد المناطق القاحلة، خاصة في إفريقيا.
يحتاج العالم إلى التخلص من اعتماده على الوقود الأحفوري الذي يستهلكه على حساب العالم النامي، ولا شك في أن الأمر يعد “حبة صعبة للابتلاع”.
لحسن الحظ، لقد تم تطوير العديد من الحلول لهذه المشاكل خلال العقود القليلة الماضية. وبعثت الطاقة المتجددة وعلى رأسها طاقة الرياح والطاقة الشمسية، بعض الأمل. لكن الجانب السلبي يكمن في أن اللجوء للطاقة المتجددة يمثل خطوة كبيرة إلى الوراء من ناحية كثافة الطاقة، وحتى إذا أصبح حصاد الطاقة من الرياح وأشعة الشمس بمثابة علم دقيق، لكن مصادر الطاقة هذه لا تزال الأكثر تكلفة من حيث كثافة استهلاك الموارد لكل وحدة طاقة يتم إنتاجها. وتضاف إلى ذلك مشكلة التقطع حتى نقف أمام معضلة مناخية حيث تقتصر الخيارات المتوفرة المتعلقة بمصادر الطاقة النظيفة القابلة للتمدد التي يمكن أن تدعم مصادر الطاقة المتقطعة، على اثنين فقط، وهما الطاقة الكهرومائية والطاقة النووية، ولديها أيضا تحديات خاصة بها.
في وقت ينحصر فيه استخدام الطاقة المائية جغرافيا على البلدان ذات أنظمة الأنهار الكبيرة التي تتدفق على مدار السنة، فإن الطاقة النووية هي الحل الوحيد القابل للتطبيق لتوفير الطاقة القابلة للتمدد منخفضة الكربون، لكنها تكافح من أجل الحصول على الزخم الحقيقي في طريقها نحو الحياد الكربوني. وأحد الأسباب الرئيسة لهذا السعي هو العامل الاقتصادي، نظرا إلى أن محطات الطاقة النووية التقليدية هي كبيرة الحجم ولذا تتطلب عمليات التخطيط والبناء لها ضخ الكثير من رأس المال. وغالبا ما تحد التكلفة الكبيرة لمحطات الطاقة النووية من شهية رأس المال الخاص للاستثمار في هذه المشاريع. كما أن أعمال التشييد تستغرق وقتا طويلا وهي مكلفة ويتم تراكم الفائدة على القروض أثناء البناء.
ورغم أن هذه العوامل لا يمكن إنكارها، فإن التركيز المفرط عليها يصرف الانتباه عن حقيقة أن هذه التكاليف تنخفض على المدى الطويل، ما يجعل الطاقة النووية في الواقع خيارا ناجعا. على سبيل المثال، صحيح أن مفاعلات الماء المضغوط كبيرة في الحجم، لكن قدرتها الإنتاجية من الكهرباء تبلغ ما بين 1000 و1650 ميغاواط لكل مفاعل. ومن المهم أن نلاحظ هنا أنها قادرة على الحفاظ على هذا المستوى الإنتاجي لعقود، علما أن فترة خدمة المفاعل بموجب التصميم يبلغ عادة 60 عاما، مع إمكانية تمديدها حتى 80 عاما.
ونتيجة لذلك، فإن التكلفة المستوية للكهرباء (LCOE) على مدى عمر محطة للطاقة النووية التقليدية تبقى في الواقع منخفضة وتنافسية للغاية. ولهذا السبب تظل مشاريع الطاقة النووية أكثر نجاحا حينما يتم تحقيقها في إطار برامج حكومية لدعم النمو الاقتصادي على أمد طويل. وتعني فترة الخدمة الطويلة التي تتسم بها محطات الطاقة النووية أيضا أنه بمجرد اكتمال أعمال البناء الواسعة لن تكون البلاد بحاجة إلى تركيب مفاعلات جديدة خلال مدة طويلة.
وبسبب الاستثمارات الكبيرة والتكلفة المتغيرة المنخفضة للتشغيل ترتفع الفعالية الاقتصادية لمحطات الطاقة النووية عندما تعمل على أساس مستمر ما يمكنها من توفير عائدات للاستثمار. ويحقق مشغلو المحطات الآن باستمرار معامل القوة بواقع 92% (متوسط الطاقة المنتجة من القدرة القصوى). وكلما زاد معامل القدرة انخفضت تكلفة كل كيلوواط من الكهرباء المنتجة.
لكن للأسف، يصعب تزايد استخدام الطاقة الشمسية وطاقة الرياح المتقطعة في شبكات الكهرباء، الحفاظ على معامل القوة على المستوى المرتفع. وتحل المصادر المتقطعة محل الطاقة الآتية من المصادر الأخرى عند تدفقها إلى شبكات الكهرباء، مما يؤثر سلبا على الطاقة المولدة في المحطات النووية ويدفعها للتراجع، فضلا عن أن تكلفة تلك الطاقة الدخيلة تجعل الطاقة النووية غير مجدية اقتصاديا بشكل مصطنع في شبكات الكهرباء المختلطة التي تتسم بالقدرة الاستيعابية العالية.
ومع الأخذ في الاعتبار النظرة الإيجابية عموما للتكاليف طويلة الأجل، فقد أبدى عدد من الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومن بينها الإمارات ومصر والأردن وتركيا، اهتماما قويا بالطاقة النووية. وكانت هذه الدول أكدت استعدادها لتقاسم النفقات المالية الكبيرة التي تتطلبها محطات طاقة نووية جزئيا، وتلك الدول إما تمتلك بالفعل البنية التحتية الشبكية الضرورية لدعم عملها أو لديها إمكانية إنشاء بنية كهذه.
ومن المهم أن يكون التخطيط لتطبيق التكنولوجيا النووية فعالا من حيث التكلفة. ويلعب هنا احتساب التكلفة المتوقعة بشكل صحيح ودقيق دورا حاسما حيث يجب ضمان العمل المتسق عند مستوى حوالي 92% من إجمالي القدرة على توليد الطاقة، أي يجب ألا يتم تغيير سعتها عن طريق إضافة الطاقة المتقطعة إلى شبكة الكهرباء العامة. وعندئذ فقط سيكون من الممكن توفير الطاقة الكهربائية بصورة موثوقة وثابتة والتي سيكلف أقل من حيث القيمة الاسمية مع مرور الوقت.
وأخيرا، يجب أن تتوافق تكلفة المشروع مع الواقع حيث يعد معدل الخصم بنسة حوالي 3% لتمويل بناء محطات الطاقة النووية جيدا. ويعطي هذا المعدل ثماره خلال الفترة الطويلة لخدمة المحطة وفي حال حدوث تأخر لفترات طويلة أثناء البناء. وإن كان ممكنا تأمين التكلفة اليومية على مستوى 6000 دولار/ كيلوواط على مدى 60 عاما بمعدل خصم 3%، فلن يقارن أي مصدر طاقة منخفض الكربون بالطاقة النووية من ناحية الفعالية.
ونظرا إلى التحديات الخطيرة التي تنتظرنا في المستقبل، فإن الطاقة النووية تستحق مقعدا حول طاولة الطاقة النظيفة. والآن بعد أن شرعت الإمارات ومصر وتركيا وبنغلاديش والصين والهند في بناء وتشغيل محطات جديدة للطاقة النووية، يمكننا أن نتوقع انخفاضا كبيرا في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لكل وحدة طاقة موصولة بشبكة الكهرباء، ناهيك عن فوائد الحقنة الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تنفيذ المشارع الضخمة كمشاريع الطاقة النووية. والآن حان الوقت لتحسين ظروف اللعبة إذا كنا نأمل حقا في تقليص الاعتماد العالمي على الوقود الأحفوري.