كتبت مرلين وهبة في “الجمهورية”:
عند غياب المناعة في المجتمعات، تعيش الشعوب فصولاً مشابهة للمشهدية المؤلمة التي تابعها اللبنانيون بأمّ العين في وسط مدينة طرابلس المنزوعة الهيبة والمرجعية.
فالثوار، بحسب وصف علماء المدينة، مقطوعة علاقتهم مع بنية المجتمع ولا يهمهم تقديم شيء لهذا المجتمع او تقديم اي اضافة إليه، فهو لم يُظهِر مرة انه يهتم لأمرهم فوصلت غالبيتهم الى حالة اليأس العظمى والقصوى ونزلت الى الشارع، وعندما ينزل أمثالهم الى الشارع يتبعهم الشعب ويسير خلفهم أو معهم بلا دراية ولا يعلم الى اين الوجهة لأنه ايضاً له حالته الخاصة الأخرى، وهي حالة فقر شديد وجهل أكبر، فإذا صاح القسم الأول يردّد القسم الثاني الصياح.
وهذا المشهد يحدث عندما تختفي المناعة عند الشعوب وتختفي السلطة في المدينة، وهذا ما لمسه أبناء طرابلس أخيراً من غياب للسلطة الفعلية والعملية عندما غابت معها المرجعيات. أمّا السلطة في عاصمة الشمال فحدّث ولا حرج، وما تبقّى من رموز سلطة فهو يعمل ويجهد بنفسه لكن لتثبيت الأمن، وتتمثّل هذه الرموز بالجيش والقوى الامنية التي ترتجل السلطة بكل أمانة، ومن الانصاف القول إنّ مواجهتها أمس للفوضى وللحفاظ على الامن كانت متأنية، ولو عاكَس البعض الصورة، ووصفها بالظالمة. فالعسكريون عملوا في مواجهات الامس وما زالوا يعملون على حماية الاملاك العامة وأمن المواطنين، والثوار هم الذين بالغوا بالهجوم، أصليين كانوا أم «صينيين» أم حاملي أجندات خفية.
الخبراء الامنيون يصفون المشهد في طرابلس بـ«الثورة المزدوجة»، وبحسب هؤلاء انّ الجوع هو الوعاء الكبير الذي يربطه بأجهزة لديها أجندة مرتبطة بمجموعات صغيرة مكلّفة إحراق هذا المصرف او ذاك. اما الثوار الجائعون فلا اجندات لديهم ولا في بالهم إحراق المصارف، يريدون فقط التعبير عن غضبهم، ولكنهم من دون دراية يشكلون هذا الوعاء للّعبة المخابراتية الامنية.
وفق ابن المدينة الوزير السابق رشيد درباس، إنّ الجيش مهما حاول فرض الامن فهو لا يملك سقوفاً سياسية والمدينة غابت عنها مرجعياتها السياسية، وعندما طالبهم من خلال «نواقيس الخطر» بإنشاء منظومة للتكامل الاجتماعي أخفقوا في الامتحان وهَوت المنصّة، ولم يتبقَ من امل لأهل المدينة سوى مطالبة هؤلاء بالحد الأدنى، وهي المنظومة السياسية، اي منظومة للوجود السياسي.
عن الحالة الامنية التي تدهورت في طرابلس، يرى درباس أنها كانت متوقعة وقد حذّر منها، ولكن هناك عصابات تشارك، في رأيه، مع هؤلاء الثوار وتستغل الثورة النظيفة، بالإضافة الى قوى سياسية هامشية تجيد هذه اللعبة، ولكنهم ليسوا سياسيين جوهريين. وعن هولاء يقولون انهم أقليّات في المجتمع لا يساوون شيئاً، ولكن الارض خصبة ولا يمكن اللعب في ساحة الثورة لأنها متعطّشة لكل اشكال التمرد، وهؤلاء يستغلون المنابر الصادقة للثورة، ليصيحوا.
امّا الحل الوحيد مع هؤلاء وغيرهم فلا بديل له وهو، في رأي درباس، اعلان حالة طوارئ عسكرية في مدينة طرابلس.
لا يعارض اللواء أشرف ريفي اعلان حالة الطوارئ العسكرية في طرابلس، خصوصاً اذا استمر تدهور الوضع الأمني، ولكنه يستبعده، لأنّ لبنان ليس العراق، كذلك يستبعد موافقة السلطة السياسية على اعلان حالة الطوارئ العسكرية في المدينة، إذ في السياسة لا يمكن «بَلعها» بحسب تعبيره، مشيراً الى «انّ السلطة السياسية رفضتها في زمن كورونا فكيف ستقبل بها اليوم؟». لكنه في المقابل يرى احتمالاً كبيراً للوصول الى إعلانها في المدينة، لأنها ستصبح مطلب جميع الاطراف في حال استمر التفلّت الأمني في الشارع، إذ لن يستطيع احد ضبطه سوى الجيش».
ريفي يحمّل السلطة الحالية مسؤولية ما يجري. وإزاء المواجهات مع الجيش يؤكد «أنّ شعب طرابلس المُسالم يحب الجيش اللبناني ويتعاطف معه، ولكن أجندات البعض هي التي خَرّبت العلاقة ظاهرياً بين الجيش والثوار في المدينة». ويتخوّف من ان تكون الوجهة الثانية لهؤلاء مراكز اخرى غير المصارف «لأن هذه هي طريقتهم في العمل ومن دون «جيش الجياع» لن يتمكنوا من التحرك فهم يريدون غطاء وإلّا سينكشفون»، لافتاً الى «انّ اللعبة قد تكون على مستوى لبنان، ولذلك تنتقل ايضاً الى بيروت».
الوضع الراهن، في رأي ريفي، لن يطول «إلا اذا كان هناك مشروعاً خفياً أكبر، وعندئذ ندخل في دوّامة لا نعلم كيف تنتهي ومتى».