Site icon IMLebanon

هل تؤسس الكورونا السياسية اللبنانية لحرب أهلية جديدة؟

كتب نزيه الخياط في صحيفة “اللواء”:

أربكت انتفاضة ١٧ تشرين الاول ٢٠١٩ جميع الأحزاب اللبنانية وأرّقتها جدياً وما زالت، خاصة تلك التي تشكل اليوم الأكثرية الحاكمة الممسكة بالسلطة الفعلية وفي مقدمها حزب الله والتيار الوطني الحر ما دفعهما للانقضاض ميدانيا وسياسيا بشراسة على جمهور المنتفضين في الساحات مجددين  الخطاب الفوقي المنسلخ عن الواقع المجتمعي العام.

كان الحدث الكوروني خشبة الخلاص لهذه السلطة وفرصة للسلوك الانتهازي لاعادة الأمور الى سابق عهدها مستغلة الى الاقصى عملية احتواء انتشار وباء الكورونا وتطبيق قرار الحجر المنزلي على اللبنانيين لاتخاذ قرارات تسلطية تهدف الى تثبيت المراحل الاخيرة للانقلاب على الصيغة اللبنانية، الذي بدأت مفاعيله مع اتفاق الدوحة عام ٢٠٠٨ على اثر اجتياح حزب الله لبيروت في ٧ أيار مدعوما من ميشال عون حينها، فكانت الخطوات الاولى للبدء بالانقلاب على دستور الطائف.

بالنسبة للشعب اللبناني، فإن فساد غالبية الطبقة السياسية مسألة مسلم بها، وعلى الرغم من مواقفها المؤيدة لدستور الطائف الا ان طرفان أساسيان منها يرفضانه ويعملان على تفريغه من مضمونه بالممارسة السياسية، الاول حزب الله الذي يمارس التّقيّة في رفضه للطائف من خلال دعمه للطرف الثاني الغافل او المستغفل عن جوهر مشروع الحزب الذي يجاهر به ويعتبر لبنان ساحة ورأس حربة للمشروع الايراني، الا وهو التيار الوطني الحر، الذي يعلن جهاراً تحفظه على اتفاق الطائف وسعيه الى إلغائه اذا أمكنه او اجراء تعديلات عليه تعيد الصلاحيات الى رئيس الجمهورية او تعديلات بالممارسة من خلال قرصنة صلاحيات رئيس الحكومة السني، بناء على هرطقات دستورية واجتهادات استنسابية لا أساس قانوني لها تظهرت بشكل واضح مساراتها مع بداية عهد الرئيس ميشال عون عام ٢٠١٦.

١ – خطاب فتنوي ومغامرة سياسية :

إن اخطر ما يجري على الساحة اللبنانية منذ عام  ٢٠٠٨ ويهدد بتفكيك النسيج الاجتماعي، هو الخطاب السياسي الباسيلي، الخريشي، الأسودي وتوابعهم الأرعن والفجّ والاستفزازي والعدائي والطائفي والالغائي الذي يعبر عن الحالة التعبوية الغرائزية للتيار الوطني الحر مستقوياً بحليفه حزب الله المدرك تماما لطموح التيار السلطوي التسلطي.

لقد ادى هذا الخطاب الشعبوي الاستفزازي الذي يمارسه التيار الوطني الحر الى نبش قبور و أحقاد ومآسي الحرب الاهلية متنقلا بها في جميع المحافظات اللبنانية مهاجما بعنف وبإسفاف غالبية المرجعيات السياسية ذات الحيثيات التمثيلية الشعبية، من سنية ودرزية وشيعية غير حزب الله ومسيحية معارضة له في محاولات جدية لالغاء او أضعاف دورها لصالح فئات هامشية ضعيفة في بيئاتها المذكورة.

كشف اداء السلطة الحاكمة اليوم خلال اليوميات الكورونية الطويلة، عن شبقها للتسلط وللانتفاع وعن ذهنية خبيثة لاستغلال معاناة الشعب اللبناني المحاصر من جراء هذا الوباء والذي ما كان ينقصه استباحة لحقوقه وودائعه وبيئته وخيرات بلاده حتى ابتلى بتعميم ثقافة الانتهازية السياسية عند غالبية الطبقة السياسية ووعودها الكاذبة والذي كان ذروته الخطاب السياسي المغامر والمراهق لمسؤولي التيار الوطني الحر معطوفًا عليه موقف رئيس الجمهورية المنحاز له دون مواربة والمناقض لدوره دستورياً كحكم بين الاطراف اللبنانية، الامر الذي نتج عنه احتقانات وتوترات جدية على ارض الواقع في جميع المناطق وبدأت مفاعيلها ووتيرتها تتسارع منذ مرحلة الانتخابات النيابية الاخيرة، ما اعاد اللبنانيين  الى المناخات المشابهة التي أسست وأدت الى انفجار الحرب الأهلية المشؤومة عام ١٩٧٥.

لم يكن تراكم  العوامل الاجتماعية والحياتية هو الدافع الاساس الذي أطلق شرارة الحرب الأهلية في لبنان حينها، بل كانت العوامل الجيوسياسية والصراعات الإقليمية والدولية المعروفة وتأثيراتها على التوازنات السياسية الداخلية في التركيبة اللبنانية المعقدة، ولكننا نحن اليوم امام مشهدية مغايرة وخطيرة جدا تتداخل فيها كافة الحدود والعوامل.

٢ – انقلاب على النظام و الصيغة والميثاقية ومحاولة السيطرة على السلطة النقدية والمصرفية:

أدت العوامل السياسية الداخلية المأزومة مترافقة مع سعي دؤوب لانجاز الانقلاب على الصيغة اللبنانية واستطرادًا على هوية لبنان الاقتصادية وسلطته المالية  نظامه المصرفي، وصولا الى تثبيت موازين القوى الداخلية الراهنة المختلة منذ عام ٢٠٠٨ بفعل طغيان السلاح غير الشرعي الذي استثمر داخليا في بيروت، بعد التزام حزب الله الاتفاقات الدولية في الجنوب اللبناني ولطغيان مبدأ توازن القوى على حساب مبدأ قوة التوازن بين المكونات اللبنانية الذي كان الاساس في الحفاظ على الصيغة اللبنانية المتوازنة وطنيا وتوافقياً منذ الاستقلال وحتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري رغم الأحداث الكبرى التي رافقت تلك الحقبة والتي احترمت خصوصية التركيبة اللبنانية.

من ناحية اخرى، ادى  تشظى استقرار الواقع الاجتماعي  والاخلال بتوازناته نتيجة التدحرج السلبي للطبقة المتوسطة التي شكلت دوما ومنذ الاستقلال صمام الأمان للاجتماع اللبناني، رافقه انهيار مالي غير مسبوق في تاريخ لبنان الحديث نتيجة الفساد وعمليات النهب والمحاصصة السياسية وانهيار مستوى الاداء في ادارات الدولة واستباحة الحدود والمعابر المتعددة الخاضعة لتأثيرات سلطة حزب الله المباشرة وغير المباشرة عليها، وحلفاؤه في الإقليم، وبسبب نظام الزبائنية والمحسوبيات السياسية لغالبية القوى التي استباحت الدولة بشكل متماد ووقح  منذ عام ٢٠١٦.

وبناء عليه تبلور توجه حثيث لدى التيار الوطني الحر من منطلق انتفاعي تسلطي مدعوما من حزب الله ايديولوجياً لانتاج نظام شمولي في لبنان يرتكز على عقيدة مقنّعة مبنية على تحالف الأقليات والذي ستكون تداعياته مدمرة للخصوصية اللبنانية التي كانت مصانة من محيطه العربي.

٣ – إنعزال لبنان عن العالم العربي واختلال كبير في علاقاته الخارجية وانعدام الثقة بتعهداته:

أدى توريط لبنان في الصراعات الإقليمية والسعي الى تثبيت موقعه الانحيازي في المحور الإيراني بتأثيراته الأيديولوجية الدينية المذهبية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والثقافية والفكرية مناقضا بذلك دوره التاريخي وعلى حساب هوية لبنان العربية وانتماءه الى العالم العربي، الامر الذي سيؤدي الى تعميق التناقضات الاجتماعية والطائفية والمذهبية والوطنية والقومية فيه والذي ستكون نتيجته التأسيس لصراع داخلي دامٍ نتيجة الخلل والضبابية في الوضع الجيوسياسي الإقليمي والدولي، نعرف متى يبدأ ولكن لن نعرف متى وكيف سينتهي بتداعياته السلبية على جميع مكونات الاجتماع اللبناني من دون استثناء، مضافا اليها التداعيات الدولية لمرحلة ما بعد كورونا.

٤ – فرصة رئيس الحكومة  الضائعة وزيادة منسوب التوتر لدى السُنّة:

كان لافتقاد رئيس الحكومة حسان دياب الخبرة والنضج العملي في الحقل العام والثقافة السياسية الواقعية بتوازناتها الداخلية مضافا اليها عدم امتلاكه للحيثية الشعبية والاجتماعية واعتماده على تضخم الأنا الذاتية لديه ومتوهما او مقتنعا بإمكانية التشاطر او التوافق الضمني مع  من سمته من الأحزاب تأسيسًا لدور سياسي ما له مستقبلاً، في حين ان هذه الأحزاب وضعته وجرته الى مواجهة سياسية ومعنوية مع بيئته العامة مجرد تبنيه واقتباسه للخطاب السياسي  لقوى ٨ آذار والتيار الوطني الحر بما يحمله من كيدية تطال الحريرية السياسية التي تماهت طوال ثلاثة عقود مع السنية السياسية والتي مثلت تطلعات الاجتماع السني بغالبيته الساحقة، من خلال مشروعها الوطني الذي اطلقه الرئيس الشهيد رفيق الحريري بإعادة الاعمال بعد الحرب والنهوض بالاقتصاد الوطني.

إن مجرد الطعن والهجوم المركز  على تاريخ  ودور السنية السياسة في المعادلة الوطنية الداخلية المفترض ان يمثلها الرئيس دياب في الرئاسة الثالثة ومعطوفاً على  الأنا الباسيلية المتضخمة وهو المتمرس بالخطوات الاستباقية الانتهازية المنافسة والمسيئة لأنا الرئيس دياب والمتربصة له ليذكره دوما وبوقاحة  انه الامر الناهي داخل الحكومة وخارجها، وخير دليل على ذلك المؤتمر الصحفي الذي عقده جبران باسيل في ٢٦ نيسان الماضي الذي كان اشبه بخارطة طريق استباقية رسمها للحكومة ولرئيسها  قبل موعد اجتماعها.

لقد اضاع رئيس الحكومة لحظة  تاريخية كانت متاحة ليصنع له حيثية وطنية تثبت استقلاليته وتجديده للسنية السياسية وفق التوازنات الداخلية الميثاقية، وفوت عدم  قيامه بالدور الجامع وطنيا وليس سياسياً، وكعضو جديد متناغم من موقعه في السراي مع رؤساء الحكومة السابقين بمبادرة منه للتشاور معهم في التحديات الراهنة والتي  تساعد في ترميم البيت السني في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ وحاضر  ومستقبل الطائفة السنية، كما انه أضاع فرصة تاريخية ليثبت حيثية دوره كرئيس للسلطة التنفيذية وليس رئيسا محاطاً بمستشارين مؤثرين، لهم أجندتهم السياسية المعروفة والخاصة بهم وذلك بإحجامه عن الدعوة للقاء وطني انقاذي يدعو فيه جميع القوى الفاعلة في البلاد للمشاركة والاتفاق على خطة إنقاذ عاجلة جامعة، نقدية، مالية، اقتصادية، اجتماعية وتثبيت استقلالية القضاء لبناء دولة القانون المفقود والاتفاق على العناوين الكبرى للتنمية المستدامة والنهوض بالدولة وتحديث مؤسساتها لمرحلة ما بعد كورونا كمسار مستقبلي، ولكنه وقع او ان النهج الباسيلي المغامر أوقعه في فخ الملفات الكيدية السياسية الماضية التي تسعى جاهدة لشطب دور وإنجازات السنية السياسية  المتماهية مع الحريرية السياسية كما ذكرنا من  اجل السلطة والتسلط وإلغاء الآخرين ووضعوه رأس حربة في المواجهة المباشرة لتصفية الحسابات مع القوى السياسية  المعارضة لهم باعتبارها اللحظة المناسبة لذلك.

٥ – أسئلة برسم رئيس الحكومة  في خانة الإصلاحات الموعودة:

لقد ازداد منسوب التوتر الكبير  في الاجتماع السني المأزوم الذي تميز بحيويته في انتفاضة ١٧ تشرين، ازاء القرارات الحكومية الاخيرة والمواقف غير الموفقة في المكان والزمان التي اطلقها الرئيس دياب والتي ترجمت بالتساؤل عن أسباب عدم تبنيه القانون المقر الذي وضعه الرئيس فؤاد السنيورة والقاضي بتكليف مؤسسة مالية دولية للتدقيق في المالية العامة للدولة اللبنانية وكشف الحقائق عنها انهاءً للابتزاز السياسي الذي يمارس على الحريرية السياسية منذ اتفاق الطائف؟ ولماذا لم يحرك ساكنا تجاه ملف الكهرباء المسبب الاول للازمة النقدية الحالية  وضمه الى مسار التدقيق الذي سيحصل في مصرف لبنان كونه المعني بفتح اعتماداتها بالتوازي مع كشف خبايا صفقات البواخر؟ ولماذا وافق مؤخرا  على تأمين الاعتمادات لمشروع سد بسري الفضائحي المطعون به شعبيا والذي كان يوجب عليه ايضا إحالته على التحقيق والتدقيق المالي مع خبايا ملف الشركة الملتزمة له؟ ولماذا وافق على حصر التحقيقات في الفساد بخمس سنوات مضت وليس بعشر سنوات فترة المشاركة الكاملة للتيار الوطني الحر في السلطة واستلامه لوزارة الطاقة تباعاً في حكومات الوحدة الوطنية المتعاقبة؟ أسئلة بقيت دون جواب أدت الى مزيد من التشكيك وعدم الثقة في استقلالية رئيس الحكومة خاصة من قبل بيئته التي يمثلها في موقعه  الدستوري.

امام هذه المشهدية لمسار الاحتقان التراكمي المتسارع للأوضاع في لبنان على كافة الصعد، وانطلاقا مما هو معروف بأن الحرب تبدأ بالكلمة،  وباعتماد الكيدية والاستنساب وبخطاب سياسي ارعن غير مسؤول يعتمده التيار الوطني الحر، فإن الواقع ينذر بمخاطر حقيقية لم يدركها بعد العقل السياسي اللبناني البدائي المنسلخ عن الواقع والمقرر والممسك فعليا بزمام السلطة في لبنان، ولم يُقدِّر بعد عواقب التلاعب والاخلال بالتوازنات الداخلية في لبنان وبعلاقاته مع الدول العربية التي اثبتت التجارب ان هذه الاختلالات في العلاقات الداخلية والخارجية للبنان كانت دوما عامل تفجير للاوضاع الداخلية فيه، كما حصل في الأعوام ١٩٥٨ و ١٩٦٩و١٩٧٥ ١٩٧٨ و١٩٨٢ و١٩٨٤ و١٩٩٠ و٢٠٠٠ و٢٠٠٥ و٢٠٠٦ و٢٠٠٨ و٢٠١١ و ٢٠١٤ و٢٠١٩ مضافا اليها المغامرات السياسية الحالية.

خلاصة الامر،  فان انتشار وباء الكورونا في لبنان وعدم اكتشاف العقار و العلاج الناجع له يوازيه مسار لوباء الكورونا السياسية فيه وغياب العلاج الشافي له ايضا والذي كشف عن طبيعته الاجتياحية التسلطية للبلاد والعباد،  والسؤال المحوري هنا، هل من عقل سياسي لبناني راجح عاقل متبصر يستطيع ان يلجم عملية نحر الصيغة اللبنانية والانتحار الجماعي الكارثي المتمثلة بالأخلال بقوة التوازن لصالح توازن القوة تفاديا لحرب أهلية جديدة تتداخل فيها العوامل الجيوسياسية الإقليمية والدولية مضافا اليها الحياتية المعيشية وفق اللحظة المناسبة؟