Site icon IMLebanon

ثلاثة أوهام تُكبِّل انتفاضة اللبنانيين

كتب حسام عيتاني في “الشرق الاوسط”:

مع استئناف اللبنانيين انتفاضتهم في وجه الكارثتين الاقتصادية والسياسية اللتين ابتلوا بهما، استؤنف البحث عن سبل الخروج من حفرة الفقر والذل والمجهول التي أوقعت الطغمة الحاكمة المواطنين فيها. اكتنف البحث هذا مسايرة لأوهام رأى بعض سكان هذا البلد فيها المخرج المرجو من جحيم لا تتوقف حممه عن لسع اللبنانيين، وتحطيم آمالهم وحاضرهم.

الوهم الأول هو الاعتقاد بأن إقالة موظف من هنا أو حكومة من هناك، سواء عبر الضغط الشعبي أو من خلال إجراءات يتفق السياسيون عليها، ستساهم في تحسين الوضع العام والبدء في وقف الانهيار. تأسس هذا الوهم على الظن الخاطئ أن في لبنان حكم قانون، وأن السلطات فيه تخضع للآليات الديمقراطية في المحاسبة والرقابة والتوازن، في حين أن لا شيء يشبه هذا الظن في الواقع ولو شبهاً بعيداً. فالنظام اللبناني لا يستجيب لضغط الشارع بسبب عزلته عن الناس، واحتقاره لهم، واعتبارهم مجرد زينة تُستدعَى في مواسم الانتخابات، وتُدفَع حين يدعو الداعي إلى أتون الحروب الأهلية. وليس أبلغ في الدلالة على ذلك من إعلان زعماء القوى السياسية الرئيسة أنهم سيسحبون ممثليهم من «حكومة التكنوقراط» عند كل خلاف في إدارة الشأن العام. هذه الحكومة التي تشكلت بعد إسقاط سابقتها التي كان يترأسها سعد الحريري، في الشارع، بعد تظاهرات 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، والتي قيل إنها حكومة كفاءات تمثل روح الانتفاضة ونبضها، في حين أنها لا تمثل غير مستشاري «محركي الدمى».

ويبلغ هذا الوهم مستوى المهزلة، عندما يظن أصحابه أن النظام السياسي اللبناني سينهار من تلقاء ذاته، أو بسبب تناقضاته الداخلية، وأن الأرضية باتت مهيأة لمجيء جيل من السياسيين ذوي التوجه الديمقراطي. كان مسار السنوات الثلاثين الماضية النقيض التام لهذا التصور الطفولي.

أما الوهم الثاني، فيكمن في الترويج لإمكان استعادة أموال اللبنانيين التي بددتها الحكومات المتعاقبة بالتكافل والتضامن مع المصارف، عبر إجراءات قانونية ومراسلات مع دول ومصارف أجنبية. وأن في هذه الاستعادة المزعومة للثروات المنهوبة خلاص لبنان، وبداية تعافيه تمهيداً لبناء دولة أكثر عدلاً وأقرب إلى الشفافية. يجتمع في هذا الكلام التضليل بالوهم. فالأموال المنهوبة، سواء التي راكمها القادة السياسيون وكبار رجال المصارف والأعمال، أو تلك التي حُوِّلت إلى الخارج، نُهبت وحُوِّلت تحت غطاء قانوني متماسك ومتين، ولن تتمكن أي هيئة مدنية أو حكومية من استعادة جزء يسير منها، من دون أن تكون بفعلتها هذه تباشر هدم هيكل الدولة اللبنانية القائمة منذ 1943، وليس منذ ثلاثين عاماً كما تقترح دعاية شعبوية ساذجة.

تدمير الدولة وسلطتها الحالية، يعني فيما يعنيه فتح «صندوق بندورا»؛ خصوصاً أن أياً من دعاة استعادة الأموال لا يملك أبسط تصور عن الكيفية التي يتعين بها الاستفادة من الثروات المنهوبة التي تندرج في أرقامها مدخرات صغار المودعين الذين يسمعون يومياً تطمينات من السياسيين والمصرفيين على ودائعهم؛ لكنهم يُمنعون بتواطؤ حلف غير مقدس، أضلاعه المصارف والقضاء والأجهزة الأمنية، من استعادتها.

يتجاهل أنصار الوهم هذا أنه ليس لدى لبنان اليوم وظيفة في الاقتصاد العالمي، وأنه رقعة لا قيمة لها في السياسات الدولية؛ حيث لم تعد شعارات مثل «حماية مسيحيي الشرق» تعني شيئاً في الغرب، ولا التهديد بموجة لاجئين جديدة ترسو عند الشواطئ الأوروبية تستدر مساعدات تنتهي في جيوب مسؤولين رسميين، لا تقل تفاهتهم عن فسادهم.

الوهم الثالث يتردد بين مجموعات من الناشطين ترى إمكان إجراء تغيير جذري في البنية السياسية اللبنانية، في الوقت الذي يصبح فيه العنف الطائفي والأهلي عنوان المرحلة المقبلة.

فلبنان: «بفرادته واستثنائيته» سيكون مرة جديدة نموذجاً «حضارياً» للمنطقة العربية. نظرة إلى التاريخ اللبناني الحديث تكشف هزال هذا القول وخواءه. فبلدنا الصغير بات أضعف وأفقر وأكثر عزلة عن العالم مما كان عليه قبل خمسين عاماً، على سبيل المثال. في الوقت الذي ألقت فيه الأنظمة المحيطة به رداء القومية العربية والبعث الاشتراكي، وكشفت عن وجهها الطائفي الدموي.

وسيكون أمراً يتجاوز سوء التقدير؛ بل البلاهة، الاعتقاد بأن قوى لا تعرف غير العنف والقتل والاغتيال لغة للتخاطب، مثل تلك التي تحكم سوريا التي تحيط بلبنان من الشمال والشرق، ستترك البلد المنكوب يقرر مصيره في معزل عن إرادة حكامها ومندوبيها المسلحين في لبنان. هؤلاء المندوبون الذين سارعوا إلى تخوين المتظاهرين والاعتداء عليهم من دون أي ذريعة، وشكلوا الدرع الصلبة في الدفاع عن تحالف الفاسدين والمصارف والقوى الطائفية، هم الذين يراهن بعض مؤيدي الانتفاضة على ضمهم إلى صفوف المطالبين بالتغيير وبالثورة على النظام الطائفي الفاسد.