IMLebanon

سوريا لروسيا، ولبنان لِمن؟

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

الحديث عن النظام السوري أصبح من الماضي، فلا عودة إلى سوريا الأسد المُمسكة بالقرار السوري وصاحبة الدور الإقليمي، وأيّ كلام آخر يندرج في خانة إمّا الأوهام أو ترويج الأحلام.

من الواضح انّ المنطقة دخلت في ستاتيكو بانتظار نتائج الانتخابات الأميركية في الخريف المقبل، فلا واشنطن في وارد دفع ملفات منطقة الشرق الأوسط قُدماً، ولا طهران في وارد الدخول في تسوية مع واشنطن قبل معرفة هوية الرئيس الأميركي الجديد، وذلك في ظل رهان إيراني على عدم التجديد للرئيس دونالد ترامب لولاية ثانية على خلفية الأزمة الصحية التي اجتاحت أميركا، ولكن كل الاستطلاعات ما زالت تعطي ترامب أرجحية الفوز لا سيما في غياب منافس جدّي له.

وبانتظار الانتخابات الأميركية ستبقى كل ملفات المنطقة مجمّدة. وتشير المعلومات الى أنه في حال أعيد انتخاب ترامب فإنه سيضع منطقة الشرق الأوسط كأولوية على أجندة إدارته الجديدة، بدءاً من طهران التي ستجد نفسها ملزمة بالتسليم بالشروط الأميركية وتغيير دورها وتحديده كمدخل لإعادة إعمار إيران وسوريا واليمن وليبيا، كما إعادة إحياء «صفقة القرن» بعد إدخال التعديلات التي تزيل الاعتراض الفلسطيني، واستطراداً العربي، عليها.

ولكن الجمود على خط ترتيب أوضاع المنطقة لا يعني استبعاد التطورات العسكرية، إن على المستوى الأميركي بضربات خاطفة ونوعية في حال استُهدِفت القواعد الأميركية في المنطقة، الأمر الذي باتت تدركه طهران جيداً، وهذا ما يفسِّر وقفها للأعمال الأمنية بعد اغتيال قاسم سليماني، أو على المستوى الإسرائيلي الذي حوّل سوريا إلى مركز لعملياته الحربية ضد القواعد الإيرانية وقواعد «حزب الله» مع عدم استبعاد توسيع تل أبيب إطار عملياتها العسكرية مُستغلّة انشغال واشنطن بانتخاباتها الرئاسية، وهنا بالذات تكمن أهمية ألّا يمنحها الحزب الذريعة لاستهداف لبنان.

وأتى قرار السلطات الألمانية بحظر «حزب الله» على أراضيها بعد تصنيفه «منظمة إرهابية»، ليؤشّر إلى اتّساع رقعة الحصار الدولي على الحزب، علماً انه من المهم التذكير بأنّ ألمانيا كان موقفها متمايزاً لفترة طويلة عن واشنطن، وأبقَت قنواتها مفتوحة مع طهران والضاحية، وقادت لفترة طويلة وساطات لمصلحة الحزب، وجاء قرارها الأخير ليؤكد على وجود تَوجّه دولي صارم بالإطباق الكامل على المحور الإيراني في سياق الضغوط المتواصلة لإلزام طهران بالشروط الدولية.

فهناك مشهد جديد يَرتسم في سماء المنطقة، وستكون طهران ملزمة في حال إعادة انتخاب ترامب على تقديم التنازلات المطلوبة، بخاصة مع تحوّلها في السنوات الأخيرة من اللاعب الأقوى، إلى اللاعب الذي يخسر أوراقه الواحدة تلو الأخرى، فضلاً عن اشتداد الحصار على دورها المركزي.

وفي سياق خسارتها للأوراق، يدخل وضع سوريا التي انتقل القرار فيها إلى روسيا التي أسقطت التنافس بين سوريا عربية أو إيرانية لمصلحة سوريا بوصاية روسية في سياق اتفاق أميركي-روسي أحد عناوينه إخراج النفوذ الإيراني من دمشق، هذا النفوذ الذي تحوّل إلى ثانوي وشكلي في المرحلة الأخيرة، وما الاستهداف الإسرائيلي المتواصل للوجود الإيراني في سوريا إلا ترجمة لتفاهم عميق بين موسكو وتل أبيب ضمن ترتيب أكبر أميركي-روسي-إسرائيلي.

فالوضع السوري اليوم هو نسخة طبق الأصل عن الوضع اللبناني إبّان الحرب الأهلية، وذلك في ظل تَعذّر تغيير النظام والاتفاق على البديل من جهة، وعدم السماح لهذا النظام باستعادة دوره من جهة أخرى. وارتياح موسكو للوضع الحالي في سوريا لا يعني إعادة تعويم النظام القائم، إنما هو تعبير عن تقاطع بين حاجة النظام لموسكو للبقاء على قيد الحياة ولو تحت الهَيمنة الروسية الكاملة، وحاجة موسكو إلى إدارة شكلية تمنحها تفويض إدارة الوضع السوري بانتظار ولادة البديل. ومن هنا، فإنّ الخشية اللبنانية من ان ينفض النظام البعثي غبار الحرب عنه ليستعيد دوره السابق في غير محلّها، فضلاً عن انّ الترتيب النهائي للوضع السوري لا يمكن ان يتم من دون ضوء أخضر أميركي، وهذا ما يفسِّر انّ انتهاء الحرب تقريباً لم يُفض بعد إلى السلام وعودة سوريا إلى ما قبل اندلاع هذه الحرب.

فالشكل النهائي لسوريا سيتحدد في ضوء الرؤية الأميركية بعد الانتخابات الرئاسية، وصار من الواضح مبدئياً انّ سوريا تحوّلت إلى موقع نفوذ روسي متقدِّم، وانّ دمشق فقدت قرارها المستقل الذي أصبح في موسكو، وانّ علاقة البعث السوري الاستراتيجية مع طهران التي بدأت مع الثورة الإيرانية أصبح معبرها روسيا، ما أفقدَ إيران ورقة إقليمية مهمة، وحَوّل الدولة السورية إلى صوَرية.

ومع تحوّل سوريا إلى موقع نفوذ روسي تفقد طهران الجسر البري مع لبنان الذي ما زال قائماً، بشكل أو بآخر، بسبب الرغبة الروسية بعدم التخلي عن هذه الورقة مجاناً لمصلحة واشنطن، وبالتالي استمرار الدور الإيراني في سوريا ولو بشكل محدود يتم بشروط روسية بانتظار ان تقبض موسكو ثمن إنهاء هذا الدور أميركيّاً، فيما حدود النفوذ الإيراني لم تعد تتجاوز الساحة العراقية وضمن حدود توازنات تلك الساحة، فالزمن الذي كان فيه قرار بغداد بالكامل في طهران وَلّى إلى غير رجعة.

وليس تفصيلاً خسارة إيران لورقة استراتيجية ومحورية مثل سوريا التي سيشكّل الوجود الروسي فيها ضمانة لتل أبيب في الجولان، وضمانة لواشنطن بترسيم حدود الدور الإيراني من خلال إبعاد تأثيره عن الصراع العربي-الإسرائيلي من البوابتين السورية واللبنانية.

وإذا كانت سوريا أصبحت لروسيا، فإنّ السؤال الذي يرتسم في الأفق لِمَن سيكون لبنان؟ وإذا كان ممنوع على طهران بأن تكون على تماس مع إسرائيل في سوريا، فإنّ هذا الوضع ينسحب على «حزب الله» في جنوب لبنان، بخاصة انّ واشنطن تعتبر الحزب ذراعاً إيرانية، والعقوبات المُشددة عليه والمعطوفة على الحصار الدولي تشكل مؤشراً مهماً بأنّ حدود النفوذ الإيراني لن تتجاوز العراق، وانّ ما ينطبق على سوريا ينسحب على لبنان، وانّ الدور العسكري للحزب الذي بدأ في العام 1983 يجب، وفق القراءة الأميركية، أن ينتهي ليتحوّل إلى دور سياسي شأنه شأن كل القوى اللبنانية.

ويبدو انّ واشنطن لا تستسيغ ان توسِّع موسكو نفوذها باتجاه لبنان، وتعتبر انّ حجمها لا يتيح لها أساساً امتلاك أكثر من الورقة السورية، ومع سَعيها لتعطيل النفوذ الإيراني في لبنان، يصبح السؤال مشروعاً عن الجهة التي سيكون لها الكلمة الفصل فيه، مع ترجيح ألّا يكون تحت نفوذ دولة واحدة على غرار سوريا، إنما الاتجاه الغالب الدفع نحو التدويل من خلال إبقائه جزءاً من الشرعيتين العربية والدولية، ولكن بعيداً عن صراعات المحاور.

فتعددية المجتمع اللبناني المتداخلة مع عواصم القرار العربية والغربية ستمنح لبنان الكبير امتيازات استثنائية على غرار لبنان الصغير في زمن السلطنة العثمانية، الأمر الذي سيُفسح في المجال أمام تدويله كحلّ يعكس التنوّع داخله وينسجم مع تاريخه ودوره منذ قيام الجمهورية اللبنانية، والتدويل لا يعني انتقال القرار اللبناني الاستراتيجي من طهران إلى واشنطن أو مَن تفوِّضه إدارة الملف اللبناني، إنما يعني منع استخدامه من قبل أي ورقة إقليمية، لأنّ زمن التفويض انتهى، والدول الغربية ليست بوارد إحياء تجاربها الاستعمارية، وموسكو تشكل استثناءً على هذا المستوى وحدودها ستبقى سوريا، كما انّ انتفاء الدور السوري وانحسار الدور الإيراني سيُساعد تلقائياً في تحييد لبنان، ولا حاجة للتذكير بأنّ مشكلة لبنان منذ نَيله الاستقلال إقليمية بامتياز لا دولية، ويبقى على القوى اللبنانية حسن إدارة الدولة اللبنانية بعد تعطيل او نزع أبرز لغم منذ قيام الجمهورية، والذي انفجر مراراً وتكراراً وفجّر الدولة والاستقرار، وما يزال، وهو لغم التوريط بدلاً من التحييد.