كتبت نوال نصر في صحيفة “نداء الوطن”:
هلكوا الأرض والعباد في التفسير والتحليل والتوضيح و”التمعين” لاتفاقٍ تجاوز سن الرشد من زمان وما زال قاصراً. فهل آن أوان إتمام مراسم الدفن المؤجلة لإتفاقٍ ولد هزيلاً وعاش في العناية الفائقة ومشح مرة ومرتين وثلاثاً؟ هي لحظة مفصلية تتبدل فيها أمور كثيرة فهل كيان لبنان ودستوره على المحك؟ من يختار؟ من يقبل ومن يرفض؟ وأيّ صيغة أعدّت للبنان ما بعد 2020؟
قبل أن يصل لبنان الى “القعر” هناك من صرخ كثيراً “بلوا الطائف واشربوا مياهه”. وهناك من عمل كثيراً على تغيير كل مرتكزات النظام السياسي لإنشاء نظام يكون له فيه حق الفيتو المطلق. هناك من “فرم” إتفاق العيش المشترك وطالب، بصوتٍ عالٍ، باتفاق جديد. فهل نجح في ما أراد؟ وهل سينجح في رمي لبنان في أتون النار؟ ألبير منصور الذي حذر من زمان، منذ تسعينات القرن الماضي، من ذلك كاتباً “الإنقلاب على الطائف”. وفايز قزي، العروبي جداً، الشاهد على تفاصيل كثيرة من محطات العماد ميشال عون، قبل أن يصبح العماد “صاحب الفخامة”، نعى الطائف ومن زمان. فكيف يقرأ الرجلان المرحلة وما سيلي؟ وهل إعلان وفاة إتفاق الطائف معناه التسليم المطلق بأننا أصبحنا أمام مرحلة تأسيسية جديدة عرابها “حزب الله”؟ وماذا يقول القاضي سابقاً، النائب اليوم، جورج عقيص عن الصورة الكاملة؟
حين يبدأ السياسيون الكلام عن السياسة اللبنانية يستعيرون بعض مرادفات القمار من نوع “السلسلة المنتظمة” straight flush ولعبة “الثلاث ورقات” واللعبة المكشوفة… فهل وصلنا الى نهاية اللعبة وانكشفت كل الأوراق؟
فايز قزي
يُنهي الكاتب السياسي فايز قزي، آخر اللمسات على كتابٍ جديد، يتناول فيه آخر الحقبات التي نعيشها. عنوان الكتاب أصبح جاهزاً لكنه سيخضّ كل من يقرأه. هو عنوان من وحي هذه المرحلة. هو من القائلين إن اتفاق الطائف قد إنتهى من زمان وهناك من نجح في التأسيس لمرحلة جديدة يُشبه لبنان فيها الصومال.
هل فخامة – العماد هو من نجح في إنهاء الإتفاق- الدستور الذي لم يهضمه يوماً، أم هو “حزب الله” الذي عمل على إبعاده واستبعاده؟
اتفاق الطائف، بالنسبة الى قزي، ليس إلا “فولكلوراً” ويروي قصة قديمة حصلت معه يوم ذهب، في الحادي والعشرين من تشرين من العام 1989، للقاء أبو عمار ويخبر: استقليت طائرة هليكوبتر الى قبرص ومن هناك انتقلت للقاء أبو عمار الذي قال لي ان صدام حسين “محشور” وسيوقع على الطائف أنا (أي أبو عمار) لا يمكنني أن أحمي الجنرال إلا بطريقة واحدة، بأن يذهب الى الطائف وحينها سنؤمن له حصة. رجعت، والكلام الى قزي، ليل الحادي والعشرين من تشرين الى لارنكا، وبينما كنت في انتظار قدوم الهليكوبتر للنزول الى لبنان اتصل بي أبو عمار مجدداً وقال لي: إتصل الآن بميشال عون وقل له اننا أرسلنا الأخضر الإبراهيمي للقائه فليكن مرناً معه. اتصلت بالجنرال وأخبرته بهذا فأجابني: طمئنه الى أن الإبراهيمي سيأتي أخضر وسيعود يابساً. ميشال عون، فخامة الرئيس اليوم، كان عنيداً فهل هو من يعمل من أجل التأسيس لدستور جديد أم أن الأمور بالنسبة الى فخامته قد تغيرت؟
يتحدث قزي عن “لقاء المتناقضَين” وتقاطعهما حول رفض هذا الإتفاق، أي التيار الوطني الحرّ و”حزب الله”. ويستطرد: الجنرال اليوم رئيس للجمهورية تحت مظلة “الطائف”، لكن الطائف مات، وميشال عون بالبزة الرسمية أطلق الرصاص على ميشال عون بالبزة العسكرية أما “حزب الله” فهو حزب ديني وطبيعته تتناقض مع دستور الطائف العلماني.
جورج عقيص
ما رأي النائب القاضي جورج عقيص بالهمس الذي يطنّ في الآذان عن اتجاهات محيّرة أمام لبنان إقتصادياً وإجتماعياً وحتى سياسياً ودستورياً؟
النائب الضليع في المسائل القانونية والدستورية يصرّ على استبعاد الإنقضاض الكامل، في هذا الوقت بالذات، على إتفاق الطائف ويتمنى على من يستسهل استكمال خططه المنهجية لتقويض الدستور أن ينهمك أكثر بالمسائل الملحة واحتياجات الناس الذين هم على “كف عفريت” ولقمتهم سائغة. ويضيف: في كل حال سنكون بالمرصاد لكل من يسعى الى اللعب بالدستور، هذا إن حاول أحدهم ذلك يوماً، وإلغاء مبدأ التعددية والضمانات المعطاة للطوائف وتقويض النظام الرأسمالي الإقتصادي الحرّ. نحن بالمرصاد. ولن نرضخ أبداً أمام فائض القوة. نحن نؤمن بالتوافق وبأن لغة الحرب قد انتهت، وبأن نظام الحكم في لبنان قائم على وجود معارضة وموالاة وكل حديث عن غير ذلك هو سابق لأوانه. وأي كلام عن إنهاء الطائف، أو حتى التلميح بذلك، هو بمثابة ذرّ الرماد في العيون والتأسيس لدوامة من الصراعات.
ألبير منصور
ما رأي ألبير منصور الذي شارك في الطائف وكان أول من نعى الطائف؟
يقول منصور: الإنقلاب على الطائف بدأ منذ تسعينات القرن الماضي وانتهى الإتفاق في العام 1992 منذ أن دخلوا في موضوع الترويكا ونسفوا الدستور، ومنذ ذاك الحين دخلنا مرحلة العبور بين الطائف وما بعده. ويشرح: الطائف نصّ على توحيد الوطن والساحات و”لمّ” السلاح غير الشرعي والإنتقال الى النظام الوطني. لكن، لسوء الحظ، إنتقلنا من مرحلة إعادة توحيد البلد الى نظام الحصص والإنحراف في اتجاه آخر. كان يفترض، بموجب إتفاق الطائف، الإنتقال التدريجي من الوضع الطائفي والمذهبي الى حالة وطنية كاملة لكن حصل نقيض ذلك وتكرس الوضعان الطائفي والمذهبي وعاد الكلام عن سنة وشيعة وموارنة ودروز وأرثوذكس. وعدنا نترحم على أيام الشهابية حيث كان هناك توزيع طائفي لكن مع احترام للكفاءات والطاقات. ويعود منصور الى العام 1992 حين حصلت أول انتخابات نيابية بعيد اقرار الطائف وحصل تزوير نوعي ويقول: أتتخيلين أنه في بعلبك الهرمل على سبيل المثال لا الحصر سجل محضر القاضي مشاركة 51 ألف ناخب وسجل في مكان آخر أن عدد المقترعين كان 72 ألفاً. برعوا بعيد الطائف بتقنية تزوير الإنتخابات.
ماذا يعني كل هذا؟ هل بلغنا الذروة اليوم ويمكننا أن نحدد موعد دفن الإتفاق ونحن نشهد زوال مقومات لبنان المالية والإقتصادية؟ يجيب: أعتقد أننا ذاهبون الى تمحور أقسى بكثير مما كنا نظن من قبل بعد أن شهدنا خطة مبرمجة لتدمير كل المرافق العامة.
نعود لنسأل، هل يمكن إنعاش الطائف الذي لا يجسد طبعاً كل الطموحات والتطلعات؟ يجيب منصور: هذا بات محالاً في ظل هشاشة القوى الوطنية وضعفها. الوضع لسوء الحظ مأسوي، وإذا لم ننشئ هيئة إلغاء الطائفية وتوجهنا الى قانون إنتخابي على أساس دائرة إنتخابية واحدة وتعديل قانون الأحزاب فلن نتمكن من تغيير النمط السائد والانتقال من الوضع المذهبي والطائفي الى حالة وطنية متكاملة. فنحن نعيش بديل الدولة فيدرالية طوائف مقنعة.
ماذا بعد دستور الطائف؟
من يمسك بزمام الأمور اليوم هو “حزب الله” الذي تحفّظ على الطائف والتيار الوطني الحر الذي اعترض على الطائف. والأول كان يراهن، يوم ترشح سمير جعجع للرئاسة على الفراغ وعودة الأخير عن ترشحه، وبمسعى من فايز قزي كما يقول الكاتب السياسي، عاد واضطر الى المضي في انتخاب ميشال عون رئيساً مع شروط قاسية تمثلت في وجود مستشاري الحزب في أروقة بعبدا. “حزب الله” قبل بميشال عون بعدما أصبحت اللعبة مكشوفة. والحلّ؟ سنشهد في الأيام المقبلة ما كان يسميها كمال جنبلاط “الأفكار المكوية”، بمعنى سنسمع الكثيرين يعوّمون أفكاراً قديمة بالية على أنها أفكار جديدة. سنشهد في الأيام المقبلة من يستعرض أفكاراً بالية على أنها أفكار جديدة، غير أن الكلّ يدرك أننا في “عنق الزجاجة”.
نحن اليوم، بحسب فايز قزي، بين ثلاثة إحتلالات: الأتراك العثمانيون ويهود إسرائيل وفرس إيران. والفرس يتمددون. “إجتماع بعبدا” يوم غد الأربعاء الذي دعا إليه فخامة الرئيس في القصر الجمهوري، بإخراج من عين التينة و”حزب الله”، هو خروج عن نصوص الطائف. ويشرح قزي: كل طاولات الحوار وطاولات النقاش الجانبية، بعيداً عن المؤسسات، هي خروج فاضح عن نصوص الطائف وتسليم بمنطق “الأمر الواقع”. فما رأي جورج عقيص؟ يجيب: نحن لا نقارب هذا الموضوع بهذا الشكل، من زاوية قانونية دستورية، فرئيس الجمهورية يحق له دعوة رؤساء الكتل النيابية، لكننا نتحفظ على الجدوى وملاءمة التوقيت. فكيف يدعون الى خطة وقّعت. وكان يفترض عرضها على المجلس النيابي”.
ما رأي ألبير منصور؟ يجيب: تمنيت لو دعا رئيس الحكومة الى هذا الاجتماع قبل إقرار الخطة للتشاور، ويستطرد بالقول: رئيس الجمهورية حكم لا طرف. وهذا الاجتماع، بشكله، هو إكمال للتمحور المذهبي والطائفي.
لبنان، كل لبنان، بكلِ أطره في لحظة مفصلية. فهل يخطئ من يسأل في هذه اللحظة عن مرحلة ما بعد الطائف؟ قريباً جداً تتضح الأمور.