كتبت حنين غدار:
مع عودة المتظاهرين اللبنانيين إلى الشوارع، ينشب صراع آخر وراء الكواليس، معركة مالية بين “حزب الله” ومصرف لبنان. وكانت الحكومة الموالية لـ”حزب الله” أعلنت في 30 نيسان/أبريل أنها ستسعى للحصول على مليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي كجزء من “خطة إنقاذ” اقتصادية أوسع نطاقاً. وفي الوقت نفسه، يحاول الحزب فرض سيطرته الكاملة على العملة الصعبة المتبقية في البلاد، وذلك باستخدام الأزمة المالية لتعزيز اقتصاده الموازي في وقت تعاني فيه المصارف اللبنانية من نقص حاد في العملة.
الرهانات
منذ سنوات عديدة، أُجريت العديد من المعاملات الاقتصادية العادية في لبنان بالدولار الأميركي. وفي الآونة الأخيرة، توقفت المصارف المحلية عن توفير الدولارات للمودعين بعد أشهر من تحديد حدود السحب. ثم أمر مصرف لبنان المقرضين بالسماح بالسحب من حسابات العملات الأجنبية بالليرة اللبنانية فقط. لكن لوقف تراجع الليرة في السوق الموازية، حدد مصرف لبنان سقفاً قدره 3200 ليرة للدولار لشركات الصرافة. ورغم هذه الإجراءات، واصلت العملة هبوطها الحر، وبيعت بسعر منخفض يصل إلى 4000 ليرة للدولار، أقل بكثير من سعر الصرف الثابت البالغ 1500 ليرة للدولار الذي كان قائماً منذ عقود. وكان الصرافون يبيعون الدولارات بأسعار أعلى من السعر الذي حدده مصرف لبنان. وذكرت وكالة “رويترز” أن العديد من هؤلاء اعتُقلوا في 27 نيسان/أبريل بتهمة انتهاك الحد الأقصى؛ ورداً على ذلك، قررت شركات الصرافة إغلاق “مكاتبها” إلى أن يتم الإفراج عنهم.
ويشكّل هذا التصادم جزءً من حرب أشمل بين “حزب الله” الذي يدعم الاقتصاد الموازي للصرافين، ورياض سلامة حاكم مصرف لبنان الذي يدعم القطاع المصرفي. ومن المرجح أن يكتسب المعسكر الفائز السيطرة الكاملة على العملة الصعبة والنظام المالي في لبنان.
تجلّي خطة “حزب الله“
شوهدت أولى علامات هذا الصراع في أوائل نيسان/أبريل عندما حاول “حزب الله” تعيين بعض حلفائه في مناصب مالية رئيسية: وهي: أربع مناصب نائب محافظ خالية في مصرف لبنان، ومناصب رفيعة في لجنة الرقابة المصرفية التي تشرف على العمليات اليومية للمقرضين الخاصين. ويسيطر مناصرو “حزب الله” بالفعل على وزارتي المال والداخلية، وبالتالي فإن اختراق هذه المؤسسات المصرفية سيعزز المركز المالي للحزب. لكن الخطة تعطلت عندما هدد رئيس الوزراء السابق سعد الحريري -بضغط من السفيرة الأميركية دوروثي شيا كما يبدو- بسحب حلفائه من البرلمان إذا وافق مجلس الوزراء على التعيينات.
ومن حينه، نظم “حزب الله” حملة واسعة ضد سلامة، متهماً إياه بسرقة أموال وحماية النخب السياسية الفاسدة. كذلك، ألقى رئيس الوزراء حسن دياب باللوم علناً على سلامة في تدهور الأوضاع الاقتصادية. وذكر في خطاب ألقاه في 24 نيسان/أبريل: “هناك فجوات كبرى في مصرف لبنان، فجوة في الأداء وفجوة في الإستراتيجيات وفجوة في الصراحة والوضوح وفجوة في السياسة النقدية وفجوة في الحسابات، وبلغت خسائره 7 مليارات دولار هذا العام”، مضيفاً أن “دوره يبدو إما عاجزاً أو مُعطلاً بقرار أو محرضاً على هذا التدهور الدراماتيكي في سعر العملة الوطنية”. ووفقاً لبعض التقارير انضم رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل إلى هذا الفريق، وألقى باللوم على سلامة في فقدان احتياطيات العملة وحث الدولة على “تصحيح” هذه الأخطاء. ووفقاً لـ”رويترز”، “انتقد” نائب الأمين العام لـ”حزب الله” نعيم قاسم مصرف لبنان بسبب الانخفاض القياسي لليرة، معلناً أن سلامة “يتحمل المسؤولية جزئياً” وأنه يجب اتخاذ “قرار مناسب” لتقديم “مصلحة البلد على أي شيء آخر”.
إن الحملة المناهضة لسلامة والطلب الجديد لمساعدة الإنقاذ الحكومية من صندوق النقد، يدعوان فعلاً للسخرية إلى حد كبير بالنظر إلى عدم قيام الحكومة اللبنانية الموالية لـ”حزب الله” بفعل شيء للتخلص من الفساد أو تنفيذ الإصلاحات التي باتت ملحة. ومع ذلك، فمن المرجّح أن يضاعف “حزب الله” حملته ضد المصارف مع بدء موجة أخرى من الاحتجاجات الشعبية.
ما الذي يحتاجه “حزب الله”؟
يدرك “حزب الله” أن سلامة كان يطبّق السياسات المالية للحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ تعيينه حاكماً لمصرف لبنان للمرة الأولى عام 1993، وبهذه الصفة، قام بتسهيل تحويل أموال المصارف إلى كل تلك الحكومات، وبالتالي إلى النخبة السياسية الفاسدة التي تمثّلها، واستمرت هذه الاستراتيجية لسنوات دون اعتراض إلى حد كبير إلى أن تم تبديد أموال المودعين. ويشكل “حزب الله” وحلفاؤه جزءاً من هذه النخبة ويتقاسمون الكثير من اللوم، رغم محاولاتهم التنصل منها.
إن ما يريده الحزب الآن هو استبدال النظام المالي والمصرفي المتداعي بنظامه الموازي القائم على الاقتصاد النقدي. ومن شأن ذلك أن يمكّن “حزب الله” من السيطرة على جميع النقد الموجود حالياً في أيدي الشعب اللبناني، والذي يقدر بـ6 مليارات دولار إضافة إلى 7 مليارات ليرة. كما سيساعد الحزب على أن يصبح المستورد الرئيسي للبضائع في لبنان، ومعظمها من إيران وسوريا.
إلى ذلك، يدرك “حزب الله” جيداً أن مصرف لبنان يسيطر على أصول كبيرة باستثناء العملة. ولا يزال المصرف يمتلك شركتين مربحتين (“الميدل إيست” وكازينو لبنان) وعقارات شاسعة. كما يسيطر على احتياطيات النقد الأجنبي للبلاد والتي تشمل 13 مليار دولار من الذهب المخزّن في الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. وكانت فكرة بيع هذا الذهب مرفوضةً في لبنان على مدى عقود، لكنها عادت إلى الظهور وسط أزمة العملة والتخلّف الذي يلوح في الأفق وقدره 33 مليار دولار من الديون الخارجية. وإذا قام مصرف لبنان ببيع الذهب، فمن الواضح أن ذلك سيخلق فرصاً هائلة لتحويل بعض الأموال إلى “حزب الله” والنخبة الأوسع “تأثيراً”.
وكان قطاع الاتصالات هدفاً مربحاً آخر للحزب. والآن بعدما سيطر “حزب الله” على وزارة الاتصالات، وضع مسؤولية إدارة القطاع بيد الوزارة مباشرةً، مطيحاً بالشركتين الخاصتين (“ألفا” و”تاتش”) اللتين كانتا تتولّيان هذه المهمة نيابة عن الدولة. ويمكن أن تصل الأرباح السنوية لهذا القطاع إلى نحو مليار دولار، مما يجعله مكافأة قيّمة. وتحت مرأى عيون مسؤول في “حزب الله” ورئيس لجنة الإعلام والاتصالات النيابية حسين الحاج حسن، يعمل الحزب، وفقاً لبعض التقارير، على إعداد استراتيجية شاملة لقطاع الاتصالات في البلاد تتماشى مع أهدافه.
توصيات في مجال السياسة العامة
إن النظام اللبناني بأكمله، ومن بينه قطاعه المصرفي، في حاجة ماسّة إلى إصلاحات جوهرية، ويجب تنفيذ الكثير منها قبل أن يطرح المجتمع الدولي أي خطة إنقاذية مناسبة، وليس بعدها. وإذا لم يتم تنفيذ هذه الإصلاحات، فسيكون الإصلاح الحقيقي مستحيلاً إلا إذا انهار النظام.
ومع هذا، يمكن اتخاذ بعض الإجراءات المفيدة في غضون ذلك لاحتواء خطط الاستحواذ المالي لـ”حزب الله”، وإحاطة الموجة الأخيرة من الاحتجاجات بالمعلومات الصحيحة. لقد عمل الحزب وحلفاؤه على استغلال الغضب الشعبي لتأجيج حملتهم على المصارف، لذا يجب الكشف عن هذه الحملة. وفي حين من الضروري الضغط على مصرف لبنان، إلّا أنه لا يجوز السماح للنخبة الفاسدة ولحلفاء “حزب الله” في لبنان بالتملّص من مسؤوليتهم عن الانهيار المالي. ولتحقيق هذا التوازن، يجب على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي اتخاذ ثلاث خطوات أساسية:
1- التصدي لمواقف “حزب الله” المناهضة للمصارف: ويعني ذلك فضح خططه التي تُحاك وراء الكواليس لاستبدال القطاع المصرفي وتوضيح سبب عدم قدرة اقتصاده الموازي على حل أزمة لبنان. وستساعد استراتيجية خطة التواصل في هذا الصدد، والتي تشمل التعامل مع وسائل الإعلام اللبنانية المستقلة.
2- إصدار عقوبات جديدة ضد حليف سياسي فاسد ورفيع المستوى لـ”حزب الله”: يساهم استهداف مثل هذه الشخصية (على سبيل المثال، مسؤول أو رجل أعمال تابع لـ”التيار الوطني الحر” أو حركة “أمل”) في تحقيق أهدافٍ متعددة هي: توجيه رسالة دعم لمطالب الشعب، وتذكير المتظاهرين بضرورة تحميل النخبة السياسية برمّتها مسؤولية الفساد، وليس المصارف فقط؛ وتذكير المصارف بأن الانصياع لمطالب “حزب الله” سيجبر النظام المالي الدولي على قطعها. وبشكل عام، التزمت المصارف اللبنانية بالقيود الأميركية التي منعت الأفراد والمؤسسات المرتبطة بـ”حزب الله” من الوصول إلى الدولار الأميركي، ولكنها قد تميل إلى الخضوع إذا واصل الحزب مواقفه المعادية للمصارف أو لجأ إلى أعمال العنف كما فعل في الماضي (تفجير أمام مقر “بنك لبنان والمهجر” في بيروت عام 2016).
3- إقامة قنوات تواصل مع الشارع: يجب على المسؤولين الأميركيين والدوليين أن يبدأوا بالتواصل مع المتظاهرين والناشطين السياسيين. فعند انهيار النظام اللبناني -كما يبدو حتمياً الآن- قد تبرز طبقة سياسية جديدة. وقد سبق أن بدأ “حزب الله” بتشكيل مجموعته الخاصة من الناشطين لملء هذا الفراغ. لذلك، سيكون من الحكمة لواشنطن وحلفائها إقامة علاقات مع قادة بديلين “محتملين”، عاجلاً وليس آجلاً.
وتلقائياً ستميل الحكومات الأوروبية إلى إرسال مساعدات مالية إلى لبنان بأسرع وقتٍ ممكن من أجل الحفاظ على الاستقرار خلال جائحة فيروس “كورونا”. ولكن دون تنفيذ إصلاحات جادة، قد تنتهي مثل هذه المساعدات وبسرعة في جيوب “حزب الله” وبقية آلة الفساد. وبالنسبة للشعب اللبناني الذي عاد إلى الشارع رغم مخاطر “كوفيد-19″، من الواضح أن الإصلاح السياسي أكثر أهمية من الاستقرار.
