لم تكن مشاركة “القوات اللبنانية” في لقاء بعبدا اليوم مستغربة، بل طبيعية في سياق التموضع الوطني والسياسي لـ”القوات” التي بنت مشاركتها على الحيثيات والأسباب الآتية:
أولا، تتعامل “القوات” مع القوى السياسية منذ تفكك جبهة 14 آذار على “القطعة”، أي وفق الملف المطروح، فتؤيد حيث يجب ان تؤيد، وتعارض حيث يجب ان تعارض، وكل ذلك تحت سقف المؤسسات، والتعامل على القطعة مع الحكومة المعطوفة على المشاركة الفاعلة في مجلس النواب يدفعها إلى التعامل بالمثل مع رئاسة الجمهورية. فمقاطعة المؤسسات الدستورية إما تكون شاملة أو لا تكون، فلا يجوز مثلا مقاطعة الرئاسة الأولى والانفتاح على العمل المؤسساتي مع الرئاستين الثانية والثالثة.
ثانيا، عدم المشاركة في لقاء بعبدا يعني إعلان القطيعة مع العهد وطنيا، فيما المقاطعة قائما ثنائيا، ومقاطعة من هذا النوع تعني الدعوة إلى إسقاط رئيس الجمهورية، وهذه الدعوة تتطلب وجود جبهة متفقة على مرحلة ما بعد العهد الحالي، الأمر غير القائم حاليا، و”القوات” لا تتمسك بالعهد الحالي، ولكنها تريد ان تضمن المرحلة المقبلة.
ثالثا، يجب التمييز بين الخلاف السياسي والعمل المؤسساتي. فمقاطعة الرئيس عون وعدم التواصل معه شيء، ومقاطعة دعوة رئاسية حوارية تجمع كل الكتل النيابية شيء مختلف تماما، ولا يخرج اللقاء اليوم عن سياق اللقاء الذي سبقه في 2 أيلول الماضي، كما لا يخرج عن إطار مشاركة “القوات” في جلسة الثقة للحكومة على رغم عدم تأمينها النصاب وعدم منحها الثقة، وذلك من منطلق ان المشاركة في استشارات التكليف والتأليف تستدعي استكمال الحلقة بالمشاركة في جلسة الثقة.
رابعا، الأزمة المالية الخانقة وغير المسبوقة تشكل العنوان الأساس لهذه المرحلة، لأن عدم الخروج من هذه الأزمة يقود لبنان نحو الفوضى، وبالتالي كل الجهود يجب ان تنصبّ على معالجة الأزمة المالية التي تجاوزت كل حدود وباتت تهدد بسقوط الهيكل، ومن هنا ضرورة الحوار من أجل وضع النقاط على الحروف كمدخل للخروج من هذه الأزمة.
خامسا، وجهة النظر التي يحملها كل تكتل يجب ان تقال وتوثّق، وقد سجّل الدكتور سمير جعجع في 2 أيلول الماضي موقفا للتاريخ بدعوته الى استقالة الحكومة التي لـ”القوات” داخلها 4 وزراء وتشكيل أخرى من اختصاصيين مستقلين، وقد لاقت دعوته استهجان كل المشاركين في هيئة الحوار، ولكن سرعان ما تحولت إلى مطلب أساسي للمتظاهرين في 17 تشرين، وما زالت دعوته السابقة تشكل المدخل الوحيد للخروج من الأزمة المالية.
سادسا، يجب ان تبقى المؤسسات المساحة المشتركة الجامعة لكل القوى السياسية، لأنه خلاف ذلك تصبح الكلمة للشارع، فيما المطلوب التجاوب مؤسساتيا مع مطالب الناس عن طريق تدعيم المؤسسات وتحصينها وليس دفعها نحو التفكك والسقوط.
سابعا، تؤيد “القوات اللبنانية” بقوة مطلب الناس المنتفضة في الشارع بضرورة إعادة إنتاج السلطة كمدخل للتغيير المنشود، ومن هنا تأييدها لانتخابات نيابية مبكرة، وستواصل ضغطها تحقيقا لهذا الهدف، وبالانتظار تسعى جاهدة لإخراج لبنان من الأزمة الكارثية تلافيا للمحظور.
ثامنا، لكل طرف سياسي الحق بتقدير موقفه ومشاركته من عدمها، ولكن “القوات” رغبت وترغب بالتعبير عن موقفها وتوثيقه للتاريخ بانها حاولت وتحاول تلافي الأسوأ، وتحمِّل الأكثرية الحاكمة مسؤولية الانهيار، كما مسؤولية عدم إخراج لبنان من هذا الانهيار بسبب تمسكها بالسلطة لاعتبارات مصلحية وزبائنية وسياسية، فيما الحلّ الوحيد يكمن برفع يدها عن المؤسسات، وان تنتقل إلى مقاعد الاحتياط من أجل الإنقاذ، وإلا، ويا للأسف، على لبنان السلام.
تاسعا، لا تشكل المشاركة أي غطاء للعهد أو للخطة، فالنظرة الشعبية والسياسية إلى العهد لن تتبدّل، كما ان الخطة أقرّت والهدف من اللقاء ليس تسجيل ملاحظات تقنية بقدر التعبير عن رؤية وطنية إنقاذية شاملة.
عاشرا، ما يميِّز “القوات” دائما يكمن في وضوحها وشفافيتها وتموضعها الذي لا يشبه أي تموضع آخر.