كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:
لا مصلحة لـ«حزب الله» في الفوضى خلافاً للانطباع السائد، لسبب بسيط وبديهي، وهو انّ الفوضى تفقده قدرة الإمساك بكل البلد وقرارات الدولة الاستراتيجية، وتجعله ينكفئ إلى داخل بيئته.
لا تختلف الاستراتيجية المتّبعة من قبل «حزب الله» عن الاستراتيجية التي اتّبعها النظام السوري في إدارة لبنان لجهة التحكُّم بقرار الدولة اللبنانية الرسمي وليس بقرار جزئي او فرعي كما كان عليه الوضع قبل 13 تشرين 1990، والدليل انّ لبنان دخل العصر السوري بعد ان أحكمت دمشق سيطرتها على القرار الرسمي اللبناني الذي التزم بالتوجه السوري وحاول أن يوحي للخارج بأنّ موقفه نابع من الإرادة الشعبية اللبنانية.
فالنظام السوري حكم لبنان بعدما تحكّم بقراره الرسمي، ونقطة قوة «حزب الله» انه يتحكّم بدوره بهذا القرار في المفاصل الرئيسية، وأيّ انهيار للدولة سيصيب الحزب بالدرجة الأولى كونه يفقده قدرة الحكم والتحكّم، فينكفئ إلى داخل خطوط البيئة الشيعية على غرار خروج الجيش السوري من لبنان. ولذلك، لا مصلحة له بخسارة ورقة الموقف الرسمي الذي يخدم سياساته تحت عنوان التعايش وتجنُّب الصدام معه حفاظاً على الاستقرار، كما انّ التمايز المدروس بين الموقف الرسمي وموقف الحزب يَصبّ أيضاً في مصلحته لناحية استبعاد العقوبات على الدولة التي في حال انهيارها سيكون أكبر المتضررين، ولعلّ أكثر ما يعبِّر عن عمق هذا التوجه دعوة السيّد حسن نصرالله المجتمع الدولي إلى منح حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثانية فرصة وعدم مقاطعتها بسبب إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى والحكم عليها انطلاقاً من لونها السياسي.
وهذا ما يفسِّر البراغماتية التي ينتهجها «حزب الله» حفاظاً على هدفه الأكبر وهو مواصلة إمساكه بمفاصل الدولة الأساسية، فتراجعه من وصف الصندوق الدولي بالاستعماري والاستكباري والإمبريالي إلى التعامل معه على القطعة يؤشّر إلى عمق تفكيره وهو تَوسُّل أي شيء يخدم الهدف الأساس، والأمر نفسه ينطبق على أمثلة كثيرة ومنها أخيراً تمسّكه بحكومة تكنو-سياسية قبل ان يعود ويتراجع لمصلحة حكومة اختصاصيين غير مستقلين.
وقد يسأل سائل: أين المصلحة إذاً في التمسّك بدولة تشكّل واجهة لهيمنة «حزب الله»؟ فإذا كان بالتسلسل المنطقي من مصلحة الحزب الحفاظ على الدولة التي يمسك بقرارها، فمن مصلحة أخصامه سقوط هذه الدولة تمهيداً لإعادة تركيب دولة أخرى لا تفسح في المجال بهيمنات من هذا النوع.
وفي إجابة سريعة يمكن القول انّ الاستراتيجية المتّبعة منذ العام 2005 تقوم على مرتكز أساس وهو استعادة الدولة من دون الدخول في الحرب والفوضى، وربط النزاع الحالي، وعلى رغم كونه لمصلحة الحزب، يبقى أفضل من العودة إلى حروب مدمّرة شهدها لبنان بين أواسط السبعينات ونهاية الثمانينات، فيما احتمال انزلاق لبنان اليوم إلى الفوضى لن يكون بسبب الانقسام السياسي كما كان الحال منتصف السبعينات، بل نتيجة الفشل في إدارة الدولة من قبل الحزب والقوى التي يغطّيها. وبالتالي، الدخول في الفوضى سيكون بفعل سياسة الحزب وحلفائه، وبينما لا ذنب للقوى الأخرى ولا يد ولا حيلة بمنع الانهيار.
وقد أوصَل «حزب الله» نفسه بنفسه إلى خيارين لا ثالث لهما: إمّا الانهيار الشامل، وإمّا تجنُّب الانهيار. ولتجنُّب الانهيار سيضطر الى تنازلات عميقة تؤدي إلى مزيد من انحسار دوره ونفوذه وتوسعة دور الدولة، فيما الوصول إلى ما وصل إليه الحزب طبيعي لأنّ للتعايش بين منطقَي الدولة الفعلية والدولة الصورية سقفاً زمنياً مالياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى انهيار الدولة الصورية التي يتلطّى خلفها الحزب، وبالتالي من البديهي في لحظة معينة ان يسقط الهيكل المُرتكز على وضع اصطناعي لا حقيقي
وعلى رغم المرونة التي يبديها «حزب الله» من أجل الخروج من الأزمة المالية تجنّباً لانهيار يُفقده ورقة قوته الأساسية الكامنة في إمساكه بمفاصل الدولة، إلا انه من أجل الخروج من الأزمة سيضطر إلى تنازلات مؤلمة تؤدي إلى الحد من دوره ودور حلفائه وتفتح الطريق أمام العبور الحقيقي نحو الدولة، وفي حال تمنّع عن تقديم التنازلات المطلوبة فإنّ الفوضى حتمية، وأبلغ دليل على هذا المستوى ما قاله النائب نهاد المشنوق بأنه «في حال عدم زيادة رواتب القطاع العام فما عليكم سوى تَوقّع الفوضى»، فكيف لدولة مفلسة ان تزيد الرواتب أساساً؟ وبالتالي دخل لبنان في حلقة مفرغة ومقفلة وإمكانية الخروج منها صعبة جداً وتتطلب إجراءات مؤلمة، وفي حال لم يقدم الحزب على الخطوات المطلوبة منه وأبرزها الإفساح في المجال أمام كاسحة الإصلاح من القيام بدورها فإنّ الهيكل سيسقط، وفي حال السقوط سيخسر بطبيعة الحال ورقة إمساكه بالقرار الاستراتيجي مقابل احتفاظه بثلاث أوراق أساسية:
الورقة الأولى هي الحدود اللبنانية التي ستكون باستلامه، إن كانت الحدود اللبنانية-الإسرائيلية او الحدود اللبنانية-السورية، وهذه الورقة هي من طبيعة استراتيجية باعتبار انّ الحدود من النقاط السيادية الأساسية، والوضع الجغرافي للمطار سيجعله أيضاً ضمن حَيّز نفوذه، وإذا كانت المرافئ ستبقى متفلتة، إلا انّ ترسانته الصاروخية والعسكرية قادرة بشكل أو بآخر على جعلها تحت السيطرة.
الورقة الثانية هي بيئته ومناطقه التي ستكون تحت سيطرته، فيما لن يكون باستطاعته السيطرة على المناطق التي تغلب عليها الألوان المذهبية والطائفية الأخرى، ولكنه سيعمد بشكل أو بآخر إلى وَصل مناطقه ببعضها البعض.
الورقة الثالثة تتصل بالتسوية السياسية التي لا بد آتية والتي سيتّكئ فيها «حزب الله» على ثلاثة عناصر أساسية يعتبر انها تجعله في موقع قوة: سلاحه، إمساكه بالحدود، وحيثيته التمثيلية مع حركة «أمل»، حيث يظنّ انّ هذه العناصر قادرة على تحصين تموضعه ضمن حَدّين: الحد الأقصى الذي يخوّله فرض شروطه في أي تسوية جديدة، والحد الأدنى الذي يتمثّل في منع قيام تسوية على حسابه.