كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
كلّ شيء يتغيّر، يتبدل ويتحول… ثمة مغتربون عادوا، في لحظةٍ حاسمة حساسة دقيقة، الى الوطن فهل يستوعبهم هذا الوطن؟ وهل ما زال المغتربون خارج الوطن ثقلاً اقتصادياً ومالياً؟ وماذا لو أصبح من عاد منهم “حملاً ثقيلاً” على الوطن؟
وزارة الخارجية والمغتربين نشطت كثيراً، في الأعوام الماضية، في اتجاه لبنانيي الشتات، ليس لأنهم أهلنا وأخوتنا وأولادنا وحسب، بل لأنهم الدجاجة التي تبيض ذهباً! المغتربون الذين لم ينقطع حبل سرة بعضهم بلبنان واستمروا “يدمعون” كلما سمعوا النشيد الوطني حولوا اموالهم بقلب أبيض الى بلدهم الأم، وتحويلات هؤلاء، التي ارتفعت في العام الماضي، في 2019 بنسبة 8 في المئة، ستنخفض هذه السنة الى حدودٍ لم يعرفها لبنان في تاريخه. ولا نعوز إلماماً في الإقتصاد والمال كي نعرف أن الثقة، ثقة المغتربين بلبنانهم، فقدت اليوم و”كل شيء يمكن أن تكون له فرصة ثانية إلا الثقة”. جبران (جبران خليل جبران طبعاً) قال هذا. لكن ماذا عن المغتربين الذين عادوا الى لبنان هرباً من كورونا؟ هل سيؤثرون إيجاباً ويكسرون بعض الجمود؟ وماذا لو أتى، من أتى، بلا “ذخيرة” مالية؟ وأيّ تأثير سيكون لمن عاد من المغتربين ولمن لم (وربما لن) يعد؟ مغتربون لبنانيون قرروا، في المحنة، العودة. جميل هذا. عادوا من دبي وأبو ظبي والمملكة العربية السعودية ومن قطر وغينيا وسيراليون والبحرين والكويت والعراق، ومن إيطاليا وفرنسا وألمانيا… بينهم طلاب، بينهم عجزة، وبينهم كثير ممن كانت دولتنا تصنفهم “دجاجات تبيض ذهباً”… فماذا يقول خبراء الإقتصاد والمال عن هؤلاء؟
يتحدث نسيب غبريل، الخبير الإقتصادي والمصرفي، عن مليون و700 ألف مغترب لبناني، غالبيتهم على تواصل دائم مع لبنان، وهم يحولون المال شهرياً الى عائلاتهم وأحبائهم هنا. ويقول: يشتد حنين هؤلاء خصوصاً في المحن وهذا ما أدى الى ارتفاع نسبة التحويلات في العام الماضي 7 مليارات، أي بزيادة نسبتها 8 في المئة. ويبدو أن ما أفاد لبنان طويلاً هو انتشار المغتربين اللبنانيين في كل أنحاء المعمورة، ما ساعد على عدم تأثر لبنان بالأزمات الخارجية، فإذا تعثر الإقتصاد الخليجي أرسل المغتربون في أفريقيا الحوالات، وإذا تلبدت أجواء أفريقيا أرسل المغتربون في أوروبا وأميركا الحوالات. نقاط قوة كثيرة ساعدت، بالصدفة، لبنان ومنحته نفساً طويلاً.
أكثر من عشرين ألف مغترب رجعوا أو سيرجعون قريباً الى لبنان. فكيف يعقل أن يؤثر هؤلاء في طبيعة الأزمة في لبنان وعمقها؟ يجيب غبريل: “لا أرقام، كما لا توقعات نهائية، حتى هذه اللحظة ومن يقول العكس يكذب، فنحن نمرّ في أزمة غير مسبوقة، كل الإحتمالات واردة فيها، ولا أحد بقادر في هذه اللحظة أن يحدد أبعادها”. ويستطرد: “طبيعي أن تزيد، مع مجيء 20 ألف مغترب، نسبة الإستهلاك خصوصاً إذا كان نصفهم على الأقل يتمتعون بالقدرة الشرائية. وزيادة الإستهلاك كما تعلمون تساعد في تحريك العجلة الإقتصادية، غير أنها ليست حلاً. عشرون ألف مغترب يعودون الى الوطن لا يقدمون ولن يؤخروا في أزمة بهذا الحجم. ناهيكم أننا لسنا وحدنا نعاني اليوم فالتوقعات تشي بانكماش اقتصادي كبير بعد كورونا في العالم ما سيؤدي الى تراجع التحويلات الى كل منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا بنسبة 20 في المئة”.
ما رأي الخبير الإقتصادي والمالي مروان مخايل؟ لا يُحبذ مخايل إعطاء أرقام في هذه اللحظة الزمنية لأن ذلك سيكون بمثابة تنبؤات ميشال حايك. فلا أحد قادر على قراءة الأرقام الحقيقية في مشهدية غير مكتملة ويقول: “في المطلق لا تأثير إقتصادياً لعودة 20 ألف مغترب الى لبنان فالوضع سيئ ويبقى سيئاً” ويستطرد: “التوقعات العامة تشي بانخفاض الإستيراد نحو 40 في المئة وارتفاع التضخم بنسبة 50 في المئة وعلينا أن نتعايش مع الوضع الى حين نتفق مع صندوق النقد الدولي في بداية الربع الأخير من سنة 2020”.
أول آخر ربع من هذه السنة معناها في تشرين. فهل سنبقى بين كماشتي ارتفاع الأسعار والدولار حتى تشرين؟ وماذا قد يحصل، في شكل مبسط، بعد تشرين؟ يجيب: “يفترض أن يتعايش اللبنانيون مع واقع جديد انخفضت فيه قدرتهم الشرائية كثيراً. وحين نتفق ونضع الإصلاحات على السكة سيبدأ تدفق الأموال ونبدأ “نترحرح” قليلاً. لكن، الإقتصاد يحتاج الى وقت كي “يقلّع” وهذا لن يكون قبل النصف الثاني من سنة 2020 لكن البوادر ستبدأ في 2021 لجهة تحسن النمو”.
أرقام وسنوات ونسب… وعمرٌ يمرّ سيشهد مزيداً من تدفق المغتربين ومزيداً من إقفال المؤسسات ويقول مخايل: “نحن قادمون على سنة “صعبة جداً” والبطالة تزيد في أقوى إقتصاد في العالم، في الولايات المتحدة الأميركية، التي ارتفعت فيها نسبة البطالة مع كورونا من 3 في المئة الى 25 في المئة. والبطالة تساهم طبعاً في رفع نسبة الفقر”. الأزمة في لبنان كبيرة جداً. إنها من أكثر الأزمات تعقيداً ليس في لبنان فقط بل في العالم. وفي الوقت الصعب علام نتكل؟ على المغتربين؟ زمان كان كلما نزل “المغترب اللبناني” الى لبنانه يسمع من يقول له “نيالك”. تغيرت النظرات والإعتبارات والعبارات.
نوى أكثر من 20 ألف لبناني العودة في زمن كورونا، ولكل واحد من هؤلاء حساباته الصحية، الإقتصادية أو الإجتماعية. وزارة الخارجية والمغتربين تحسب في الأرقام والأسماء وتختار من يعود، أو لا يعود ولها أيضاً حساباتها وأولوياتها. كل العيون في اتجاه هؤلاء المغتربين الذين قد يأتون الى لبنان بفيروس وقد يأتون إليه بحلول مالية أو ربما بمشاكل إقتصادية. لا شيء واضحاً حتى الآن. آخر طائرة أتت من كينيا ضمت 25 حالة إيجابية بفيروس كوفيد-19 وحملت طائرة من مدريد 7 إصابات وطائرة من سيراليون 6 إصابات… فهل يحمل هؤلاء (مع كورونا) ما يعزز الأمل والإستهلاك؟ من يتابع أخبار المغتربين يعرف أن هؤلاء عادوا إما لأنهم طلاب غير قادرين على سداد إيجارات مساكنهم بسبب عدم السماح بالتحويلات أو هم لبنانيون أقفلت في وجوههم أبواب الرزق في العالم فقرروا العودة الى الوطن حتى لو كان “جهنم الحمراء” أو أنهم خافوا من كورونا وفضلوا الموت، إذا كان لا بد من موتٍ، هنا.
محمد ع.، شاب مضى على وجوده في المملكة العربية السعودية 15 عاماً، اتصل بالشباب العائدين الى لبنان ليسألهم واحداً واحداً: “حدا في ياخد معو فلوس لعيلتي؟”. اللبنانيون يحولون أموالهم مع بعضهم بعدما فقدوا الثقة بالمصارف وبكل شركات التحويل. ويقول: نحن، من يعتبروننا صمام الأمان، نُحجم عن تحويل ما يزيد عن حاجات أسرنا الأساسية. يوجد نحو 300 ألف لبناني في المملكة يتابعون العمل، في فترة الحجر، أونلاين، لكن هناك بينهم من فقدوا أعمالهم بسبب إقفال المطاعم والأعمال اليومية، وهؤلاء هم من ذوي الدخل المحدود في المملكة، وطبيعي أن يقرروا النزول الى لبنان لأنهم ما عادوا قادرين على دفع حتى إيجارات مساكنهم.
وائل سأل صديقه محمد: كم سعر صرف الريال بالنسبة الى الدولار ليُرسل ألف دولار الى زوجته؟ أجابه: كان الألف دولار يوازي 3759 ريالاً وأصبح الأسبوع الماضي 3818 ريالاً. وهذا يشي أن الأزمة عالمية وما سيزيد الطامة في لبنان.
إلى لبنان درّ… 40,000 يعودون من السعودية قريباً
محمد، لبناني يعمل في المملكة العربية السعودية منذ 26 عاماً، في قطاع المقاولات ويقول: أقوم بتصنيع شيء يركبونه في الفنادق والمباني العالية، في أبراج مكة وفي فنادق جدة والرياض وفي المنطقة الشرقية في الخبر. فماذا عن علاقته اليوم بلبنان؟ يجيب: فقدت الثقة كلياً بلبنان. أتمنى الموت هنا وأوصيت كفيلي أن أدفن في المملكة حين أموت. ويشرح: حولت من 10 أيام 1670 دولاراً عبر ويسترن يونيون. كل شهر احوّل بين 1500 و2000 دولار. استلمتها زوجتي الساعة الحادية عشرة بسعر 3200 ليرة. في نفس النهار اصبح 4200 ليرة في السوق السوداء. إنهم يسرقوننا. ثلاثة ارباع اللبنانيين لن يرسلوا مالاً بعد اليوم إلا باليد مع أشخاص متوجهين الى لبنان. أخذ أحد الشباب معه في آخر طائرة نزلت الى بيروت من الرياض 18 ألف دولار أميركي، وضع المبلغ في مغلفات ووزعها على اصحابها في مكتب تأجير السيارات في المطار كما «البابا نويل».
سمعتنا اصبحت «زبالة» ولن يساعدنا أحد. ماذا يعني الوطن لنا؟ من يموت هنا لا يدفع «غلة» (فرنكاً) أما من يموت في لبنان فيدفع «نيفته». فحتى في الموت يسرقوننا. من فترة توفي شاب لبناني هنا إسمه محمد درويش بلغت كلفة عودته في صندوق خشبي 7000 ريال اي ما يعادل 2000 دولار. لماذا نرجع الى لبنان؟ جددت جواز سفري على 10 سنين كلفني 600 الف تفو عليي وعلى غربتي. والآن افكر طلّع عائلتي الى تركيا هناك ايجار بيت 700 الى الف دولار. لي زوجة وثلاثة اولاد. لماذا اتركهم في لبنان؟
من نزلوا الى لبنان لن يعودوا، فغالبيتهم غادروا «خروجاً نهائياً» وبينهم من كان يحمل تأشيرة سياحية يبحث عن عمل أو أتى بعقد عمل في مطعم ما هنا، وغالبية من عادوا كانوا يعملون في المطاعم، لكن حين اقفل البلد تقرر رسمياً تغريم من يفتح 10 آلاف ريال. اقفلت المطاعم. ويستطرد محمد بالقول: توقعوا عودة 40 ألف شاب في الأشهر الستة المقبلة الى لبنان لأن الأعمال تتقلص. فهل سيتحملهم لبنان؟ يضيف: الوضع صعب والاشغال تراجعت واللبناني لا يعجبه أن يتقاضى ما يتقاضاه السوري أو المصري. إضافة الى أن اللبناني أصبح، بعد كل الشتائم التي يتلقاها الخليجي، مكروهاً. فلتتحضر الدولة اللبنانية لحمل عبء المغتربين هذه المرة.
حسان حوحو واللبنانيون في الكويت: لهذا عادوا ولهذا لن يعودوا
فلنذهب الى دولة الكويت، لنكتشف عن قرب عدد من عادوا من المغتربين الى لبنان؟ ولماذا؟
المغترب اللبناني في دولة الكويت رجل الأعمال حسان حوحو يتحدث عن ما لا يقل عن 40 ألف لبناني يعملون اليوم في الكويت ويقول: تدنت فرص العمل وتراجعت أجور العمالة الأجنبية في الفترة الأخيرة، قبيل كورونا، بعدما قررت الدولة إعتماد سياسة زيادة توظيف المواطنين، وقد جرى تسريح كثير من الموظفين من ذوي الأجور العالية والاعتماد على العمالة الأجنبية مكانهم، ما أدى الى انتقال العامل اللبناني من وظيفة كان يتقاضى فيها 1500 دينار على سبيل المثال الى وظيفة يتقاضى فيها 700 دينار. وهذا ما دفع كثيراً من العاملين الى إرسال عائلاتهم الى لبنان لتخفيف العبء المالي وإرسال تحويلات شهرية إليهم.
نسبة كبيرة من اللبنانيين في الكويت من التجار أو من العاملين في القطاع المصرفي وشركات الإستثمار والمقاولات ويوجد أطباء. وعدد من عادوا أخيراً لا يزيد، بحسب حوحو، عن 300 لبناني، غير أن عدد من سجلوا أسماءهم للعودة يصل الى 1500 لبناني. الكويت من أفضل الدول التي تتعامل مع جائحة كوفيد- 19 فلماذا يريد هؤلاء العودة الآن؟ يجيب حوحو: حالة الذعر التي سادت في الآونة الأخيرة جعلت هؤلاء يفكرون بالموت كثيراً، وطبيعي أن يعمل كل من يشعر باقتراب الموت بالحاجة الى العودة الى جذوره، الى مرقد العنزة الذي هو، بمفهوم هؤلاء، القبر. خصوصاً بعد أن رأوا أناساً في دول كثيرة يموتون ولا يدفنون. هؤلاء يحبون الكويت ويعتبرونها وطنهم الثاني لكن، طبيعي أن يتمنى الإنسان، في اللحظات الصعبة، العودة الى الوطن الأول.
لبنان يتكل على وجود هؤلاء في الغربة واليوم يحتاج إليهم في الخارج أكثر من أي يوم… يقاطعنا حوحو بالقول: هؤلاء لبنانيون، وأموال غالبيتهم محجوزة في البنوك اللبنانية. ويستطرد: ثقتنا في القطاع المصرفي كانت كبيرة، حتى إخواننا أهل الكويت كانوا يثقون بجدوى الإستثمار في لبنان. وكنا نستقبل بالورد الوفود المصرفية الرسمية لكن الثقة تلاشت واستعادتها أمر صعب. يضيف: في جنيف سمعنا، في مؤتمر مالي عالمي، أن ثاني أو ثالث سرية مصرفية في العالم هي في لبنان وأهم حركة نقد فيه. «وين كنا ووين صرنا». إذا سألتني إذا كنت سأنزل الى لبنان فسأجيبك: لا، أفضّل ألف مرة أن أبقى في الكويت التي أتيت إليها منذ 43 عاماً. هي دولة فيها راع. «لا يوجد مغترب لم يضع، للأسف أموالاً في المصارف اللبنانية». الكلام لعميد الجالية اللبنانية في الكويت، الذي يضيف: هؤلاء كانوا يصرفون نصف معاشهم ويرسلون النصف الثاني الى لبنان. بعض هؤلاء نزل(وسينزل الى لبنان) وسيجد نفسه، كما كل أهل البلد «على الأرض يا حكم». ولتتأكد الدولة اللبنانية أن لا أحد ينزل الى لبنان إذا كانت لديه فرصة عمل. ولا أحد سيرسل «دولاراً» الى لبنان حتى إشعار آخر.
بالأرقام التقريبية
وكأن لبنان لا يحب لغة الأرقام إلا إذا أعجبه رقم ووافق هواه. اللبنانيون في الإغتراب، ذوو التأثير العالي، ينتشرون في كل العالم مع تباين في الأرقام ولكن، في الأرقام التقريبية الرسمية يوجد: في البرازيل ( 6.4 ملايين لبناني )، في أميركا (مليونان)، في الأرجنتين (1,35 مليون)، في فنزويلا (420 ألفاً)، في كولومبيا (400 ألف)، في المكسيك (340 ألفاً)، في أستراليا (310 آلاف)، في دول الخليج (750 ألفاً).