كتبت راغدة درغام في “إيلاف”:
لافتٌ ما قاله وزير الدولة للشؤون السياسية الخارجية لدولة الإمارات العربية، الدكتور أنور قرقاش، في حلقة مستديرة افتراضية لقمّة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي e-policy circle عندما تطرّق الحديث الى أرجحية لجوء إيران الى التصعيد العسكري خليجياً لتوجيه رسالة انتقامية واستفزازية للولايات المتحدة، وذلك لتحويل الأنظار بعيداً عن الاضطرابات المتوقّعة داخل إيران أواخر الشهر الجاري نتيجة تفاقم الغضب الشعبي والتدهور الاقتصادي المترتّب على العقوبات الأميركية والسياسات الإيرانية. قال “علينا التركيز على خفض التصعيد de-escalation العسكري” والتركيز بدلاً على “كيفية إدارة سياساتنا الخارجية في المرحلة المقبلة” بصورة عمليّة وبنّاءة إنما ليس من منطلق الطموح “ببناء نظام اقليمي جديد” وإنما من منطلق “الأولويات الداخلية التي لا يمكن لها الانتظار والتي قد لا تكون سياسية، إنما تداعياتها سياسية” بامتياز. لم يلتقط قرقاش أيّة خيوط لتوجيه رسائل تهديد أو إنذار أو اتهام الى طهران بل أصرّ على رسالة التهدئة وتخفيف حدّة التوتر بين واشنطن وطهران وبين طهران والعواصم العربية. ولهذا الموقف دلالات ثنائية وإقليمية ودولية.
الحلقة السياسية المستديرة تحت عنوان “الاستقرار بمفهومه الجديد” ضمّت أيضاً كل من الأمير تركي الفيصل السفير السعودي السابق الى واشنطن ولندن ورئيس الاستخبارات السعودية الأسبق، الجنرال ديفيد بترايوس رئيس الاستخبارات المركزية الأميركية CIA الأسبق وقائد القوات الأميركية في العراق وأفغانستان سابقاً، وأندريه فيدوروف نائب وزير الخارجية الروسي الأسبق. أدرتُ النقاش بصفتي المؤسس والرئيس التنفيذي لمؤسسة بيروت انستيتيوت والرئيس المشارك لقمّة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي. أكتب عنه لأنه كان حقاً نقاشاً شيّقاً ومفيداً تناول العلاقة الأميركية – الصينية وآثارها الإقليمية، تداعيات التصعيد الإيراني- الأميركي ثنائياً وانعكاساته الإقليمية من العراق الى سوريا الى لبنان، حقيقة المواقف الروسية من سوريا ومن إيران، والإصلاحات الضرورية الاقتصادية والعُمّالية في مرحلة كوفيد-19 وما بعدها.
قبل ذلك، وقفة ضرورية عند التطورات بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته مع الكونغرس ومع إيران والعراق وكذلك تطوّرات الملف مع “حزب الله” بالذات في بُعده الأوروبي.
المصادر الأميركية الوثيقة الاطّلاع والرفيعة المستوى أكّدت ان الرئيس ترامب تحدّث هاتفياً مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحضّه على خطوات مماثلة لتلك التي اتخذتها المانيا بتصنيفها حزب الله “إرهابياً” ولإيقاظه الى مساوئ دفن الرؤوس في الرمال.
إجراءات المانيا صدمت ليس فقط “حزب الله” وإنما الحكومة اللبنانية التي تتصرّف بأمرته والتي اعتقد الحزب انها واجهة مفيدة له، إذا أسماها تكنوقراطية. واشنطن التي ساهمت في مسيرة القرار في برلين لم تكتفِ بالترحيب بقرار المانيا، بل انها تحرّكت بِسُرعة لتوسيع البيكار وحمل أوروبا برُمّتها على تبنّي مواقف مماثلة. الاتصال الهاتفي على مستوى الرئاسة بين واشنطن وباريس إنما يُبرز الأهمية التي تُوَلّيها إدارة ترامب الى هذه المسألة لأنها تنظر الى حزب الله على أنه بين أهم الأولويات والممتلكات الإيرانية إقليمياً وعالمياً.
مع إيران، تحرّكت الإدارة هذا الأسبوع على صعيدين مهمين هما: أولاً، استخدام الرئيس ترامب حق النقض (فيتو) على قرار الكونغرس الأميركي القاضي بكبح أي عمل عسكري ضد إيران إذ أعلن البيت الأبيض بذلك ان الرئيس يرفض الحد من صلاحيّاته لإطلاق العمل العسكري ضد إيران، إذا وجد ذلك ضرورياً، وانه يرى ان قرار الكونغرس كان “مهيناً جداً”. واللافت هنا ان ترامب نوّه بأن استهداف قائد “فيلق القدس” التابع الى “الحرس الثوري” الإيراني، قاسم سليماني، لم يؤدِّ الى تصعيد للهجمات الإيرانية ضد الولايات المتحدة. لافتٌ، لأن المزاج في طهران يفيد بأن تأجيل الانتقام لا يعني إلغاءه، ولأن المعلومات الآتية من طهران توعِد بتصعيد آتٍ. ثانياً، تعهّدت إدارة ترامب بلسان وزير الخارجية مايك بومبيو باستخدام كل “أداة لدينا” لمنع إيران من شراء المزيد من الأسلحة وذلك من خلال العمل على تمديد قرار حظر الأسلحة المفروض عليها في مجلس الأمن. بغضّ النظر ان نجحت واشنطن في مجلس الأمن بهذا المسعى أو أفشلتها الفيتو الروسية والصينية، هناك العقوبات الأميركية الثانوية التي ستفكّر بها أية دولة تنظر في بيع الأسلحة الى إيران.
لكن إدارة ترامب أعطت العراق فُرصةً مفيدة لإيران وذلك بتمديد إعفاء بغداد من العقوبات المفروضة على طهران والذي يُتيح لها الاستمرار في استيراد الغاز والكهرباء من إيران. أتى ذلك على لسان بومبيو لدى ترحيبه بتشكيل حكومة جديدة في العراق برئاسة مصطفى الكاظمي، الرئيس السابق لجهاز المخابرات.
ديفيد بترايوس أكّد قطعاً أن “إيران هي مصدر الاستفزاز” provocation وان وباء كورونا لم يؤثّر في “أهداف إيران التوسّعية لإقامة الهلال الشيعي وللبننة العراق وسوريا بل لبننة لبنان الآن، وأعني، عبر الميليشيات القوية على الأرض، وعبر قوة حزب الله في البرلمان، وفي ائتلاف حزب الله الذي هو فعلياً الأساس للحكومة”. رأيه أن مهما حاولت إيران فرض نموذجها على سوريا واليمن والعراق ولبنان، فإن ذلك “صعب جداً في ظل ظروفها الاقتصادية المنهارة بسبب العقوبات وانهيار العملة والبطالة… والفشل الذريع في إدارة ردود الفعل على تفشي وباء” كورونا.
وفي ظل كل هذا، تابع بترايوس “لا أعتقد انهم يريدون استفزاز الحرب مع الولايات المتحدة. اعتقد انهم يدركون ماذا سيحدث. وبالمناسبة، يدركون أن الولايات المتحدة وطّدت قوّاتها في عدد من القواعد في العراق وطوّقتها بدفاعات صاروخية” هناك وفي قواعد أخرى في دول خليجية “ولذلك اعتقد انهم سيتصرّفون بحذر”. لكن ذلك لا يعني، بحسب بترايوس، ان إيران لن تستخدم ميليشياتها بالنيابة في محاولة لدفع القوات الأميركية خارج العراق وسوريا وغيرها، لكنها “لن تستفز الولايات المتحدة بصورة مباشرة”. أما فيما يتعلق بفرص الديبلوماسية، فإنها ضئيلة ما بين الآن والانتخابات الرئاسية في نوفمبر “لكني أقترح القيام بمحاولة متواضعة من أجل خفض التوتر بصورة ما ليساهم ذلك لاحقاً في شيء له قيمة ومعنى” في مرحلة ما بعد الانتخابات. وأخيراً، وفيما يتعلق بما تسعى وراءه إيران في لبنان، قال بترايوس ان “صندوق النقد الدولي في حاجة الى برنامج إصلاحات جدّية من الحكومة اللبنانية” ذلك ان “صندوق النقد الدولي ليس في وارد إنقاذ حزب الله” وإنما إنقاذ لبنان وفق برنامج إصلاحات جدّي.
الأمير تركي الفيصل حمّل “العالم أجمع، وليس فقط دول مجلس التعاون الخليجي مسؤولية التصدّي لتحديات إيران المتمثّلة في طموحاتها التوسّعية ورمي مشاكلها على الآخرين”. قال ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “وقف في الجهة الخاطئة من التاريخ بدعمه السيد بشار الأسد”، وان “الفيتو الروسية والصينية” أوصلت بسوريا الى حيث هي اليوم. تطرّق الى العلاقة بين الولايات المتحدة والصين ووصفها بأنها صبيانية قائمة على الاتهامات المتبادلة ولوم الآخر.
أندريه فيدوروف قال ان كافة الدول ستكون أضعف وغير مستقرة وانهماكها بمشاكلها الداخلية المادية سينعكس على سياساتها الخارجية. إنما فيما يتعلق بالمبارزة بين الولايات المتحدة والصين “انني متأكد قطعاً ان الولايات المتحدة ستخرج من هذه الأزمة أقوى بكثير من الصين”، وستكون الولايات المتحدة “الفائز” في هذه المبارزة وستبني ائتلافات ضد الصين” ولن تكون هناك فرصة “للغة مشتركة” بينهما.
فيما يخص إيران، قال فيدوروف “ان الشهر المقبل سيشهد اضطرابات جدّية في إيران وأفغانستان”، وان “الجهات التي أتواصل معها في إيران تفيد أنهم يدخلون لربما المرحلة الأخيرة من الاستقرار الجزئي في البلاد. فالوضع الاقتصادي رديء، وأجواء المواطنين تزداد سلبية وهذا يؤدي بالقيادة الإيرانية الى الاستنتاج أنه لا مجال للخروج من ذلك الوضع الداخلي سوى من خلال اختلاق أزمة خارجية، الأرجح مع الولايات المتحدة”، وتوقّع حدوث ذلك أواخر مايو أو أوائل يونيو.
فيدوروف سكب الماء البارد على المقالات المتتالية التي أفادت أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرر الاستغناء عن بشار الأسد، وقال “كل هذا الضجيج الإعلامي كان مجرد ضجيج لم يغيّر شيئاً”. أشار الى انهيار العملية السياسية وقال “ان وجهة النظر الروسية ان الحل الوحيد في سوريا اليوم هو محاولة مساعدة بشار الأسد للسيطرة على كامل البلاد بما يشمل مضاعفة مساعداتنا العسكرية”، سيما في هذا المنعطف وبالذات في عمليات هجومية حتمية جديدة في ادلب. أضاف ان “ايران تسيطر أكثر وأكثر على سوريا، وروسيا غير قادرة حالياً” على مواجهة ذلك سوى من “خلال تمكين الأسد”، من السيطرة على كامل البلاد.
عودةً الى اللافت في مداخلة أنور قرقاش هو أنه أصر تكراراً على أننا “نحتاج حقاً الى التركيز على خفض التصعيد” في المنطقة من أجل السماح للدول بالتركيز على “الإعصار” الذي يسببه وباء كورونا ومن أجل التفكير الضروري في نماذج التنمية والإصلاحات. قال ان اختلالات سوق العمل ظهرت كقضية رئيسية رغم انه “من السابق لأوانه” القيام بأي عمل لإعادة هيكلتها. وأضاف ان منطقة الخليج “مثل كل المناطق في العالم ستكون أضعف مالياً وسياسياً” وانه “سيكون من الحكمة التفكير في نماذج التنمية الخاصة بنا، وفي خفض التصعيد ومحاولة حل بعض المشكلات” الإقليمية.