كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
إستحكمت فوضى تسعير الدولار بسوق الصرف الثانوية، وأصبحت للعملة الخضراء عشرات الأسعار، تختلف بحسب الجهة والمنطقة والكمية المراد شراؤها وحتى الحاجة. وبعد فشل كل المحاولات “البوليسية” بضبط التفلت، وإكمال الدولار رحلته التصاعدية رغم إقفال محلات الصيرفة منذ اسبوعين، ها هي نواة محاولة “مخابراتية” تبصر النور. فهل تنجح في لجم ما قُطع رسنه؟
التوصل إلى تسوية مع الصرافين وضعت على نار متقدة، بمحاولة يائسة للجم ارتفاع الدولار والتخلص من أكثر الاسباب اثارة للمخاوف والنقمة الشعبية. فمقابل اطلاق سراح الصرافين المحتجزين وازالة الشمع الأحمر عن أقفال مؤسساتهم، سيلتزم الصرافون بمجموعة من الاجراءات التالية:
– الالتزام بتعميم مصرف لبنان القاضي ببيع الدولار على سعر 3200 ليرة لبنانية.
– تحديد كوتا شهرية لا تتعدى الـ 200 دولار بالنسبة للافراد.
– الاستحصال من الزبائن على صورة بطاقة التعريف الشخصية كالهوية وجواز السفر.
– تجهيز مؤسساتهم بتطبيق تقني يربط في ما بينهم، ويتشاركون عليه كل المعلومات المختصة بزبائنهم.
– إيجاد آلية خاصة للتجارة والمستوردين وربطهم بمصرف لبنان مباشرة من أجل تسهيل حصولهم على الدولار.
إستحالة ضبط السوق
للوهلة الاولى ترتسم في مخيلتنا صورة كاريكاتورية حول تطبيق هذه الاجراءات. حيث يصبح لكل مواطن اضبارة “دولارية” خاصة به لا يستطيع التنقل من دونها، ويُفنّد بها مصدر الدولار ورقم الاوراق التسلسلي ويحدد البائع والشاري بشكل دقيق.
التشبيه الكاريكاتوري برأي المحامي المتخصص بالشأن المالي والمصرفي عماد الخازن هو المدخل للتعبير عن “استحالة ضبط السوق النقدية بهذه الطريقة. فتجارب الماضي القريب أثبتت سهولة التحايل على الضوابط الموضوعة، وفشل كل المحاولات القمعية في الحد من ارتفاع سعر الدولار. فمن اتفاق الصرافين مع مصرف لبنان، مروراً باجتماعاتهم المتكررة مع كل من النائب العام التمييزي والمالي، وصولاً الى تعميم مصرف لبنان الذي حدد سقفاً لسعر بيع وشراء الدولار، مع ما ترافق من ملاحقات وتوقيفات بحق الصرافين ونقيبهم وحجب التطبيقات الهاتفية، لم ينخفض سعر صرف الدولار، بل على العكس فقد لامس الـ 4400”.
“التجارية” تدق ناقوس الخطر
بالاضافة إلى تعميم الحاجة إلى الدولار على كل المواطنين، فان التجار وأصحاب المحال واللحامين والمزارعين وغيرهم سيدفعون الثمن الاكبر باقفال مؤسساتهم، تشريد عمالهم وانضمامهم الى صفوف العاطلين عن العمل.
“فالاجراء الذي يحصر الحصول على كميات مقبولة من الدولار بالتجار، يقابله وجود آلاف المؤسسات والشركات والمصانع غير الملتزمة بالانظمة والقوانين المحاسبية، والتي تتعاطى التجارة من دون أن تقدم التصاريح الضريبية الصحيحة او من دون ان تكون مسجلة لدى وزارة المالية، فهؤلاء سيعاملون على انهم افراد ولن يتقاضوا شهرياً أكثر من السقف المحدد للافراد (قد يكون 200 دولار). الامر الذي سيشجع في المقابل من اجل استمرار اعمالهم على شراء الدولار من السوق السوداء بأسعار مضاعفة”، يقول الخازن.
أما بالنسبة الى التجار المسجلين والقانونيين فانه يجري بحسب مصادر معنية بالملف دراسة آلية خاصة بين مصرف لبنان والمصارف وشركات الصيرفة، تسمح لهم بالحصول على 5 آلاف دولار شهرياً على سعر 3200 ليرة، في حال كانوا لا يملكون حسابات بالدولار في المصارف. أما اولئك الذين يملكون حسابات بالدولار فستُسهل المصارف تحويل جزء من اموالهم الى الخارج بدل عمليات الاستيراد على ان يصار الى تعويضها في وقت لاحق.
بغض النظر عن قدرة المصارف على توفير اعتمادات بالدولار للتجار، فان “تعطيل آليات السوق الطبيعية ستقضي على أغلبية المؤسسات المصنفة غير اساسية، أي تلك التي لا تتعاطى استيراد المواد الغذائية”، يقول عضو جمعية تجار بيروت باسم البواب. و”في الوقت الذي يجري فيه تقديم التسهيلات لتجار المواد الغذائية، وتوفير الدولار المدعوم لهم من أموال التحويلات الالكترونية، يجري تحديد كوتا لبقية التجار”. البواب يسأل ان “كانت المواد الغذائية تتوزع ذاتياً أم هي بحاجة إلى سلع وسيطة كالسيارات وما تتطلبه من زيوت وبطاريات ودواليب، وغيرها الكثير من الامور الاساسية لاتمام المهمة”.
منذ ان أطلت الازمة النقدية برأسها على الاقتصاد اللبناني استطاع التجار الصمود من خلال تحويل المبيعات بالليرة اللبنانية إلى دولار طازج لدى الصرافين وتنظيم عمليات الاستيراد، وبالتالي ضمان استمرار مؤسساتهم والمحافظة على عمالهم. أما اليوم ومع تقليص هامش الحصول على الدولار لم يبق أمام التجار إلا خياران أحلاهما مر: إما الاقفال وصرف أجرائهم. وإما التوجه إلى السوق السوداء السرية من أجل شراء الدولار على معدلات مرتفعة، واضافة فرق العملة على اسعار المنتجات أو الخدمات.
مهما نجحت الاساليب البوليسية أو المخابراتية في اثارة المخاوف في السوق الثانوية، فان الحد من ارتفاع الدولار لن يدوم إلا لفترة زمنية قصيرة. في حين ان تنفيذ الاصلاحات المطلوبة وتحديداً في ما يتعلق بوقف التهريب وضبط المعابر الشرعية وغير الشرعية، واصلاح الكهرباء وتخفيف فاتورة القطاع العام.. سيسرع الدخول ببرنامج مستدام مع “صندوق النقد الدولي”، وسيحفز الصناعة والزراعة والسياحة، وسيشيع جواً من الثقة الداخلية والخارجية، ويفك أسر الدولار المتدفق إلى لبنان.