كتب جورج شاهين في صحيفة “الجمهورية”:
بالتزامن مع انطلاق المناقشات مع صندوق النقد الدولي، هناك من يبحث عن نقاط القوة والضعف في الموقف اللبناني، وهو أمر يُقاس بميزانين دولي وداخلي. ففي الاول لا يخفى على أحد ما ألقاه وباء كورونا على عاتق الصندوق من مسؤوليات جسام، فيما تجلّى الثاني بفقدان التوافق الوطني حول الخطة الاقتصادية. فهل سيعوق ذلك سلامة الطريق من بيروت الى الصندوق؟ كيف ولماذا؟
لم يصدق كثر من الخبراء، ولا سيما منهم الذين تعاطوا بالشأنين النقدي والمالي، انّ الحكومة أجمعت على التوجّه الى صندوق النقد الدولي للخروج من المأزق الذي تعيشه البلاد منذ ان قررت مطلع آذار الماضي التوقف عن دفع مستحقات «سندات اليوروبوندز» لحامليها من المؤسسات المالية الاستثمارية الخارجية وتلك الداخلية، بما فيها مصرف لبنان ومصارفه. فهو بوّابة العبور الإجبارية التي لم يعد للبنان غيرها لتَلمّس الطريق المؤدي الى الخروج من النفق في ظل الحصار المالي والنقدي الذي ضَربته الدول والجهات والمؤسسات الدولية المانحة لتمويل الخزينة ودعم الحكومة للخروج من المأزق الحالي.
فلبنان من الدول المؤسسة لصندوق النقد وله فيه حصة متواضعة، وان كانت لا تُقاس بحجم الحصص الدولية الأخرى في ظل الهيمنة الغربية والأميركية على إدارته وتركيبته القيادية التي تقوده في المهمات المالية الدولية. وهو ما يضعه في مكان ما قياساً على حجم الأزمة البنانية الى جانب الدول التي «تعاقب» السلطة اللبنانية منذ ان انحرفت عن أداء ما هو مطلوب منها وخروج لبنان حكماً وحكومة عن الخيارات الإستراتيجية التي جعلت منه منطقة آمنة، على خلفية كونه واحداً من مجموعة الدول التي التزمت بيان جدة (11 تموز 2014) الذي قاد الى تشكيل «الحلف الدولي على الإرهاب» وبات عضواً مُشاركاً في مؤتمراته وفي إعلانه التزام سياسة «النأي بالنفس» في ظل بحور الدم التي كانت تجري في محيطه، وتحديداً منذ أن اندلعت الحرب في سوريا منتصف آذار العام 2011 وتحوّله «أكبر مستودع» للنازحين السوريين والفلسطينيين.
وقبل كل هذه المحطات فإنّ صندوق النقد – بإرادة من يشاء او من دونها – هو واحد من مؤسسات المجتمع الدولي وأحد أدواته وله أصابعه في كثير من الملفات التي تعني لبنان منذ أن لجأ الى مسلسل المؤتمرات الدولية المانحة لدعمه وتجاوز أزماته الإقتصادية وتحديداً من مسلسل مؤتمرات باريس الثلاثة الى مؤتمر «سيدر» (6 نيسان 2018). فهو كان وما زال الى جانب الدول والهيئات والحكومات التي التقت في «مجموعة الدعم الدولية من اجل لبنان» منذ أن شكّلت صيف العام 2014 والتقت للمرة الأولى في 26 ايلول من العام نفسه على هامش أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك.
على هذه الخلفيات شكّل قرار الحكومة باللجوء الى صندوق النقد خياراً سياسياً كبيراً يحتاج الى كثير من العناية في خوض المفاوضات معه بعد أن سقطت بنحو متدرّج الملاحظات و»الفيتوات» التي وضعها «حزب الله» على طريقة التعاطي مع الصندوق، ورَفضه سلفاً ما يمسّ بما يسمّيه «سيادة الدولة» وطَلبه «مساعدات غير مشروطة اقتصادياً وسياسياً ومالياً»، في إشارة منه الى ما يراه من «تلازم» بين عمل الصندوق وآلية تعاطي الإدارة الأميركية مع لبنان، والمخاوف من ربط قراراته المقبلة بما سيكون عليه موقف لبنان من الخلاف مع إسرائيل حول حدود «المنطقة الإقتصادية الخالصة» في الجنوب ربطاً بملف التنقيب عن النفط والغاز.
وعلى رغم من أهمية موقف الحزب المؤثر في توجهات الحكومة والسلطة معاً، فإنّ أيّاً من الجهات الدولية او المحلية التي دعت الى التعاون مع صندوق النقد للخروج من المأزق لم تربط بعد أيّاً من الخطوات المتوقعة وهذه الملفات، وهو أمر لا يعني انّ ذلك قد لا يكون وارداً في مكان ما. فالحوار مع مسؤولي الصندوق بدأ قبل ايام بعد مرحلة الاستشكاف التي لم تتناول أيّاً من هذه العناصر. فبعثة الصندوق التي زارت لبنان سابقاً لم تأت على ذكر الثروة النفطية بمقدار ما لامَست طريقة استعادة التوازن الى المؤشرات المالية والإقتصادية والنقدية التي قادت الى الأزمة الحالية، كما شكل ومضمون الموازانات العامة وكيفية معالجة الدين العام والتخفيف من كلفته، ولم تتناول الثروة النفطية في لبنان ولم تقارب أيّ ملف سياسي او أمني واستراتيجي يدعو الى التشكيك بالمهة وحاجة لبنان الى خدماته.
ولكن، ورغم هذه المعطيات التي تُسقِط بعضاً من الشروط المسبقة للحزب وكل من يوافقه الرأي ويشاركه حجم الهواجس السلبية، فقد تكون هناك مقاربة أخرى اكثر إيلاماً للمعترضين على أداء الصندوق. وهو أمر متوقّع عند مقاربة شروطه الإدارية والمالية والنقدية والاقتصادية، والتي قد تصطدم ببعض القوى اللبنانية. وقد يكون ذلك عندما يبدأ البحث في تحسين قدرات الدولة على ضبط مواردها، وتحسين الجباية عبر تقليص حجم القطاع العام وكلفته وضبط التهريب على الحدود اللبنانية ـ السورية والمعابر البرية والبحرية والجوية التي يستفيد منها الحزب كمقاومة. كذلك عند البحث في وقف كل أشكال التهرب الضريبي وجباية الرسوم الجمركية التي كانت تُقاس بحجم كبير من مداخيل الدولة قبل وصول جائحة كورونا الى لبنان ومعها انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية قياساً على العملات الأجنبية، وما فعلته سلباً في حجم الإستيراد وفقدان الموارد المالية المتأتية من الاستثمارات المتضائلة الواردة من الخارج وتراجعها الى الحدود الدنيا. فمثل هذه الموارد لا تعوّض من مواقع وعبر آليّات أخرى داخلية مُضافة الى عدم اعتماد الحزب على النظام المصرفي في ماليته، وهو ما يشكّل نظاماً موازياً.
والى هذه الملاحظات التي لا يمكن تجاهلها فمن الأفضل أن تثبت الحكومة اللبنانية للصندوق، عند وصول بعثته الى بيروت قريباً، انها وحّدت اللبنانيين حول خطتها الإقتصادية وهو أمر صعب جداً. فمراقبو الصندوق والهيئات المتعاونة معه رصدت هزالة الإجماع على هذه الخطة بعد تسجيل اعتراضات اساسية من اهل الحكم والحكومة أنفسهم قبل المعارضين، وما يزيد في الطين بلّة ما نقل عن رئيس الحكومة حسان دياب في آخر جلسة لمجلس الوزراء أمس الأول عندما قال لدى حديثه عن خطة الحكومة لـ»الإصلاح المالي»: «يفترض تذكير وحدات الدولة، ومن بينها مصرف لبنان، بأنها جزء من الحكومة، وعليها أن تعمل على إنجاح الخطة…». كما أنّه من المفيد «تذكير الكتل النيابية الداعمة للحكومة بضرورة الدفاع في هذه المسألة الأساسية». وختمَ قائلاً: «انّ الموقف الموحّد أساسي جداً للتوصّل إلى برنامج مقبول مع صندوق النقد الدولي، وعدم تسبّب الانقسامات في صفوفنا بزيادة الأعباء والشروط على كاهل اللبنانيين».
وعليه، فعندما تأتي مثل هذه الشهادة من «رب البيت» عن أداء أهله، فمن المفترض ان تؤخذ في الاعتبار للتخفيف من عناء البحث عن المعوقات التي تقفل الطريق الى صندوق النقد الدولي، في وقت اقترب الصندوق من ان يكون ملجأ لمطالب العديد من الدول التي تعاني نتائج كورونا، وهو ما يزيد من العقبات امام موقع لبنان في لائحة الدول المتقدمة طالبة معونته.