كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:
لم يكن الكلام عن سيطرة إيران على أربع عواصم عربية جزءاً من بروباغاندا إعلامية، بل كان هدفاً إيرانياً وتحوّل بشكل أو بآخر إلى أمر واقع فعلي، ولطالما تحدّث مسؤولون إيرانيون عنه أيضاً.
نجحت طهران في العقدين الأخيرين، وتحديداً في العقد الأخير، بوضع يدها على صنعاء وبغداد ودمشق، التي كانت أساساً ضمن المحور الإيراني، وبيروت، وكان العمل يجري على تثبيت هذا النفوذ وجعله نهائياً في سياق الدور الإقليمي لطهران، والذي يضاف إليه إمساكها بورقة الصراع مع إسرائيل بما يجعلها في وضع مزايد على الدول العربية، وموقع المفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية.
وقد استفادت طهران في تمدّدها من وضع دولي وتحديداً أميركي لصالحها، ومن غياب الدور العربي المواجه بالقوة المطلوبة لهذا التمدد، وكادت أن تُحكم سيطرتها على العواصم المذكورة لولا التحوّل الأميركي مع إدارة ترامب الذي أعاد خلط الأوراق وجعلها في وضع مأزوم داخلياً بفِعل العقوبات، والذي يضاف إلى انكفاء في اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
والرهان المتبقّي لإيران هو عدم التجديد لولاية أخرى لترامب من أجل أن تشتري وقتاً إضافياً، وفي حال لم يطرأ أي تعديل في الانتخابات الأميركية فإنّ طهران ستكون أمام 3 خيارات:
الخيار الأول: التسليم بالشروط الدولية، والتخلي عن دورها الإقليمي ودفع الحالات الشيعية التي شكّلت رأس حربة المشروع الإيراني في المنطقة إلى الاندماج داخل دولها ومجتمعاتها.
الخيار الثاني: حَث طهران القوى التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من مشروعها في العواصم العربية الأربع إلى مقايضة ترساناتها العسكرية بصلاحيات دستورية تعزيزاً لنفوذها السياسي وتعويضاً عن دورها العسكري.
الخيار الثالث: الانتقال من الهدف التمدّدي بالسيطرة على العواصم العربية الأربع، والذي أُجهض، إلى الهدف الانكفائي المتمثّل بالتراجع إلى حدود نفوذ القوى التي تمثِّل المشروع الإيراني داخل هذه الدول، والدفع باتجاه نظام لامركزي لضمان حق الفيتو والحَد من الخسائر خشية من تذويب هذه القوى داخل البنى المجتمعية الأخرى، في ظل أوضاع دولية جديدة وغير مواتية ترمي إلى الحد من تأثيرها سياسياً.
ففي حال اكتمل المشهد المتحوِّل والمتبدِّل في المنطقة، فإنّ الأكيد بأنّ المشروع الإقليمي لإيران سيكون بحُكم المنتهي او بالحد الأدنى بحُكم المعلّق بانتظار ظروف مواتية قد تأتي أو لا تأتي، ولكن من الثابت انّ هذا المشروع فشل في لبنان الذي انهار بسبب إمساكه من قبل هذا الفريق، وفشلَ في سوريا التي أصبحت تحت النفوذ الروسي لا الإيراني، وفشلَ في العراق الذي بات يتقاسَم النفوذ فيه مع واشنطن، وكذلك الأمر في اليمن حيث النفوذ الإيراني إلى انحسار.
وعدا عن أنّ إيران لم تنجح في إقامة نموذج واحد في المنطقة وكل أوراقها مأزومة، بدءاً من الحوثي، ومروراً بالحشد الشعبي والنظام السوري، ووصولاً إلى «حزب الله»، فإنّ عنوان المرحلة المقبلة سيكون التسويات، ليس فقط لكون طهران تجيد سياسة حافة الهاوية وفي اللحظة المناسبة تبرم التسوية المطلوبة، بل لكونها لن تضحّي بهذه الأوراق التي شكّلت وتشكّل عنواناً لتمَددها ودورها ونفوذها، وبدلاً من أن تخسر أوراقها بالكامل في حروب مدمّرة تفضِّل الإبقاء عليها ضمن حَدّين: الحد الأقصى الموجودة فيه اليوم، والحد الأدنى المتمثِّل بالدور السياسي، الأمر الذي لا يجب التقليل من أهميته.
فالمشكلة مع إيران تكمن في دورها العسكري في المنطقة، لا السياسي الذي من حقها ان تستمر فيه شرط ألّا يهدد أنظمة أخرى وأن يحترم دساتير الدول وأن يحصل من ضمن المؤسسات وتحت سقف أولويّات كل دولة، ولكن بمعزل عن المشهد الفوضوي في المنطقة اليوم، فإنّ الأمور تسير بهذا الاتجاه، أي باتجاه التسويات، على نار بطيئة لسببين:
السبب الأول يعود لتراجع اندفاعة المشروع الإيراني الإقليمي بفِعل أزماته الداخلية وحصاره الخارجي، وحرصه بعد مقتل قاسم سليماني على تجنُّب الاشتباك المجاني وترقُّب مسار الانتخابات الأميركية قبل أن يقرر المنحى النهائي للسياسة التي سيعتمدها، والتي ستتوّج في النهاية بالتسوية.
السبب الثاني مردّه الى أنّ أدوار القوى المنضوية في المحور الإيراني أدّت إلى إنهاك العواصم العربية الأربع التي دخلت في مراحل الانهيار والفوضى، وبالتالي بات يترتّب على كل دولة من هذه الدول، باستثناء سوريا التي أصبحت تحت وصاية روسيا، أن تعيد ترتيب أوضاعها الداخلية تجنّباً للانهيار الشامل والفوضى، وهذا ما يفسِّر انكفاء او انتفاء دور «حزب الله» الإقليمي، وانتقاله من خطوة تراجعية إلى أخرى خوفاً من انفراط الدولة التي يمسك بقرارها الاستراتيجي، خصوصاً انه يخوض أساساً مواجهة لا يُتقنها، وقد اعترف أخيراً بأنه أهمل مقاربة الواقع المالي في لبنان مُحاولاً بذلك أن يرفع عن نفسه مسؤولية الانهيار الحاصل، فيما أحد الأسباب الرئيسية للانهيار يكمن في إمساكه بمفاصل السلطة.
والفشل الذي وصلت إليه الدول المَمسوكة استراتيجياً من جانب المحور الإيراني لا يعود إلى أخصام طهران في المنطقة وفي الدول المعنية فحسب، بل مردّه بشكل أساسي إلى سوء إدارة القوى الحليفة لإيران التي تريد تحميل هذه الدول مشاريع أكبر من قدرتها وطاقتها على الاحتمال، وتَبدية الأهداف الإقليمية على المحلية، وتوظيف مؤسسات الدول الموجودة فيها لخدمة قضايا تفوق قدرة شعوب تلك الدول على تَحمّلها. وعَدا عن الفساد القائم واستباحة كل شيء، فإنّ لبنان مثلاً لا يستطيع ان يحمل على كتفه سوريا، وهكذا دواليك.
فانحسار الدور الإيراني لا يعود فقط إلى محاصرة واشنطن لطهران، بل يعود إلى سوء إدارة هذا الفريق، كما يعود أيضاً إلى انّ هذه المشاريع التي تُعادي معظم دول العالم لن تكون قابلة للحياة، ومهما طال عمرها أو وضعها، فإنها آيلة في نهاية المطاف إلى السقوط الحتمي من الباب المالي والاقتصادي قبل السياسي، لأنّ هذه المشاريع أكبر من قدرة أي دولة على تحمّلها، فضلاً عن انه لا يمكن لأيّ دولة تطمح لاستقرار وازدهار أن تعزل نفسها عن العالم، وحتى إيران التي تدّعي الاكتفاء الذاتي استنجَدت بالمجتمع الدولي لِمدّها بالمليارات في مواجهة الأزمة الصحية.
فالمشروع الإيراني اصطدم عملياً بـ3 عوائق أساسية: العائق الأول من طبيعة دولية في ظل المواجهة الكبرى بين واشنطن وطهران، والعائق الثاني من طبيعة إدارية في ظل فشل هذا المشروع بتقديم نموذج واحد ناجح لدولة حديثة، والعائق الثالث من طبيعة مالية واقتصادية باعتبار انّ المشاريع الكبرى التي تفوق طاقة الدول والشعوب وتُعادي معها معظم دول العالم غير قابلة للحياة.
وليس تفصيلاً ان تقود السياسة التي اتّبعها «حزب الله» من خلال إمساكه بمفاصل الدولة اللبنانية إلى وضعه بين حدّين: حَد التنازلات المؤلمة تجنّباً للفوضى، وهذه التنازلات تعني مزيداً من انحسار دوره ونفوذه، وحَد الفوضى التي سيكون أكثر المتضررين منها في حال لم يُقدِم على التنازلات المطلوبة.