كتبت رلى موفّق في صحيفة “اللواء”:
سبق لنائب الأمين العام لـ «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم أن أعلن، في سياق رفضه لطلب لبنان مساعدة صندوق النقد الدولي، أن لدى «الحزب» خطة اقتصادية متكاملة، لكنه لم يطرحها في نقاشات الحكومة كي لا يُقال إن الحزب يريد أن يفرض رؤيته. ثم أطل الأمين العام السيد حسن نصر الله ليقول إنه ليس ضد مبدأ طلب لبنان مساعدة من أي جهة في العالم، باستثناء مَن عليهم خطوط حمراء، ولكن الاستسلام لصندوق النقد أمر مرفوض بالمطلق. ويضيف: «إن أحداً لم يفوّض أحداً للذهاب والتفاوض، وما وقّع عليه رئيس الحكومة ووزير المال – حسب فهمه – هو الذهاب إلى صندوق النقد للنقاش والتعاون والمساعدة، وبعد النقاش، يعودون إلى الحكومة لمراجعة الشروط والبرنامج، والخطوات المطلوبة، وهل يحمل البلد هكذا شروط أم لا؟ وهل من مصلحة له؟».
أرسل نصر الله رسالة إلى شركاء الداخل وإلى الخارج بأن المسائل مرهونة بنهاياتها، لكنه لم ينتظر النهاية. فمع بدء الحكومة، المحسوبة عليه، مفاوضاتها الرسمية مع صندوق النقد، رفع سقف كلامه، مشككاً بحصولها على مساعدات خارجية، ذلك أن لا قدرة للمانحين المفترضين فيما هم يعانون لمنع اقتصاديات دولهم من الانهيار. جاءهم بالخطة البديلة: تتوجهون نحو الغرب، فيما المطلوب اتجاه آخر. العودة إلى المشروع الأساس. ربط لبنان بالمحور، والبوابة هي سوريا، هي الطريق إلى العراق، ومنه بالطبع إلى إيران. هنا مكمن حل الأزمة الاقتصادية، حيث إن جوع اللبنانيين لا ينتظر مراعاة مناخات سياسية داخلية أو إقليمية يمكن أن تشكل إحراجات.
قفز نصر الله فوق حكومته ليرسم لها «خارطة الطريق»، معلناً باكراً إطاحته بخطة تفاوضها مع الصندوق. فرغم اتقانه للعبة الانتظار، إلا أنه اختار حرق المراحل. هو يدرك أن شروط «الصندوق» أداة لمحاصرته، لكنه شن هجوماً وقائياً، مع توجسه من الاستحقاقات الآتية، التي يشكل ضبط المعابر مع سوريا عنوانها الرئيسي، ليس من باب وقف التهريب الاقتصادي، بل تهريب السلاح الذي يندرج في القرارات الدولية، ولا سيما القرارات 1559 و1680 و1701.
كوبيتش يتحرّك لتأتي جلسة التمديد لليونيفيل في آب بإخضاع المعابر مع سوريا لولاية القرار 1701
فمع المناقشة الدورية لمجلس الأمن لمسار تطبيق كل من القرارين 1559 و1701، حض الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش «الحكومة والقوات المسلحة اللبنانية على اتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع «حزب الله» والجماعات المسلحة الأخرى من الحصول على الأسلحة وبناء القدرات شبه العسكرية خارج سلطة الدولة»، وكانت تساؤلات من المندوبة الأميركية كيلي كرافت عن دور «اليونيفيل» واتهامات للحكومة ولـ«حزب الله» حول منع القوات الدولية من تنفيذ تفويضها. هذه الأجواء التصعيدية عادة ما ترتفع عند اقتراب التجديد للقوات الدولية في جنوب لبنان، بحيث إن واشنطن تدفع على الدوام في اتجاه تعزيز صلاحيات قوات الطوارئ، غير أن منسوب القلق يرتفع لدى «حزب الله» هذه المرة في ظل اتخاذ الضغوطات عليه حدها الأقصى كجزء من احتدام المواجهة مع إيران.
فوفق ما وصل «حزب الله» من معطيات، فإن ثمّة محاولات حثيثة ليس من قبل الأميركيين فقط، بل كذلك من قبل ممثل الأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيتش من أجل الدفع في جلسة التجديد لـ«اليونيفيل»، في شهر آب المقبل، إلى إيلاء الحدود مع سوريا أهمية خاصة ضمن مهمات القوة الدولية المعنية بتقديم مساعدة للحكومة اللبنانية لضمان أمن حدودها ونقاط الدخول الأخرى. بالطبع تأتي القرارات الدولية في سياق منع تسرب الأسلحة والمعدات إلى جهات خارج القوات الشرعية، ولكن ضبط الحدود له وظيفة أخرى هي تجفيف مصادر تمويل «الحزب» من جهة، والالتفاف على العقوبات المفروضة على النظام السوري وعلى إيران من جهة ثانية، حيث إن واشنطن ماضية في تضييق الخناق على كل جماعة المحور.
ضبط المعابر الشرعية وإقفال غير الشرعية حاجة ضرورية للبنان من أجل منع تهريب المواد، ولا سيما المازوت والطحين التي يوفر مصرف لبنان لها «دولاراً مدعوماً» منه لاستيرادها تلبية لحاجات السوق اللبنانية، لكنه أيضاً شرط أساسي لا بد من أن تلبيه السلطات اللبنانية للحد من خسائر الدولة الجمركية وحماية مبدأ التنافس في البيئة الاقتصادية، فيما الحكومة ذاهبة إلى طلب مساعدات مالية من الخارج.
في هذا الإطار، يجد «حزب الله» أنه أمام استهداف مباشر. فما يجري هو في حقيقة الأمر استكمال لمعركة المعابر العراقية – السورية التي يعتبر الحزب وايران انهما نجحا في تأمينها، ذلك ان تأمين الطريق من طهران إلى بيروت مسألة استراتيجية بالدرجة الأولى، تطلبت الانخراط بقوة في الحرب السورية، بوصفها شريان الحياة وموطئ القدم للحليف الإيراني على المتوسط. ولم تكن مطالبة نصرالله الاقتصادية بالتوجه نحو الصين قبل أزمة كورونا، وبالحديث عن «جنة العراق» وشعبها المحب للبنان، الذي يستدعي عودة العلاقات بين لبنان وسوريا، لفتح طريق الترانزيت، إلا دعوة للبنانيين وسلطته بانتهاج خيار اقتصادي يسهم في تعزيز الخيار السياسي لـ«الهلال الشيعي» المرتبطة ساحاتها بعضها ببعض والمؤمنة طريقه العسكرية البرية.
هذه معركة وجودية بالنسبة لـ«حزب الله»، فنشر قوات أممية على الحدود بين لبنان وسوريا يعني أن طريق طهران – بيروت قد قطعت، وأن عملية محاصرة «حزب الله» قد بدأت تفعل فعلها، تماماً كما عملية محاصرة إيران في سوريا والعراق ولبنان. وهذا بمثابة استدعاء للحرب ستكون وجهتها إسرائيل، وربما ستكون الحرب الأخيرة التي سترسم معها معالم النفوذ في المنطقة لقرن من الزمن!.