تتكاتف الأزماتُ على لبنان الذي أنْهَكَه الانهيارُ المالي في عزّ انكشافه السياسي على صراعات المنطقة ورياحها المتعاكِسة، قبل أن يجد نفسه في عين عاصفة «كورونا» وهبّاتها الباردة تارة والساخنة طوراً والتي تصارع البلادُ لمنْع وصول «الموجة التسونامية» القاصِمة للنظام الصحي.
ولم يكن ينقص لبنان سوى «زحْف» جحافل من الخنافس السود والحشرات التي اجتاحت مناطق واسعة لتكتمل أضلع مربّع الخوف من «كوفيد 19» وارتدادات السقوط المالي وآفاق التدافُع المستجدّ على خطوط الصراع الاقليمي وبعناوين عابرة للحدود، حتى بدت البلاد وكأنها محشورة في دائرةٍ مقفلة وتبحث عن زاوية خلاصٍ مالي يبقى القفل والمفتاح فيه… سياسياً.
وفيما سجّل «كورونا» أمس 11 إصابة جديدة رفعت العدد الإجمالي إلى 902 (بينهم 247 حالة شفاء و26 وفاة) وسط اتجاه الأنظار إلى ما إذا كانت السلطات اللبنانية ستقرّر تمديد رباعية الإقفال التام التي تنتهي فجر غد بهدف ضمان عدم انزلاق لبنان إلى المرحلة الرابعة من انتشار الوباء لا سيما في ظل استمرار رحلات إجلاء المغتربين في جولة جديدة (بدأت الخميس) تُعتبر الأخطر وتشمل إعادة نحو 11 ألف لبناني حتى 24 الجاري، كان عدّاد الاجتماعات عن بُعد بين لبنان وصندوق النقد الدولي يتقاسم روزنامة الأولويات لا سيما في ظل الآمال المعلّقة على هذا المسار لوضْع البلاد على سكة الإنقاذ عبر برنامج تمويلي تتطلّع بيروت لأن يكون بعشرة مليارات دولار على نحو 4 سنوات استناداً إلى خطة الإصلاح التي أقرّتْها حكومة الرئيس حسان دياب.
وعشية الجولة الثانية من المفاوضات غداً، ارتفع منسوب القلق من تداعيات «الانطلاقة العرجاء» التي عبّر عنها أداء الجانب اللبناني في مستهلّ عمليةٍ هي أصلاً شاقة ومعقّدة ومدجّجة بـ«الألغام» التقنية والسياسية، وهو ما عبّرت عنه الوقائع الآتية:
* ما «لَمَسَه» صندوق النقد من تبايُن صادِم في أول اجتماع عبر تقنية الفيديو بين أرقام خسائر لبنان، وفق ما أوردتها خطة الحكومة، وبين الأرقام كما يحدّدها المصرف المركزي الذي عبّر ممثّلوه عن عدم الموافقة على المقاربة التي اعتُمدت لاحتساب الخسائر على مستوى الخزينة العامة ومصرف لبنان ومجموعة المصارف التجارية، ناهيك عن ارتياب مصادر مصرفية من مجمل الاستراتيجية الرسمية القائمة على تحميل هذا القطاع أعباء الفجوة المالية من ضمن «محاولات لتدجين المصارف وتغيير هوية لبنان النقدية القائمة على السرية المصرفية والنظام الاقتصادي الحر»، وصولاً إلى الوقع الصاعق لمجاهرة وزير المال غازي وزني باتجاهٍ لإعادة هيكلة المصارف (كما البنك المركزي) «حيث أن في لبنان 49 مصرفاً تجارياً ومن الطبيعي أن ينخفض الرقم الى نحو النصف في المرحلة المقبلة».
وفيما سيشكّل انضمام حاكم «المركزي» رياض سلامة إلى الوفد اللبناني بعد غيابه عن اجتماع يوم الجمعة إشارةً إيجابية في الشكل، لم يُعرف إذا كانت اتصالات الساعات الفاصلة عن الاثنين ستفتح الباب أمام ترجمات على مستوى المضمون لجهة توحيد «جبهة التفاوض» اللبنانية.
وفي هذا الإطار، اعتبرت أوساطٌ واسعة الاطلاع أن «المعركة الخلفية» المستمرة من السلطة ضدّ حاكم «المركزي» تشكّل ما يشبه «إطلاق رصاصة على القدم» بما يعكس تعاطياً رسمياً «خبط عشواء» مع ملف مصيري، لافتة في هذا الإطار إلى الانعكاسات السلبية للمناخات «العدائية» ضدّ مصرف لبنان وحاكمه التي رافقتْ توقيف مدير العمليات النقدية في «المركزي» مازن حمدان بتهمة التلاعب بسعر صرف الدولار من خلال عمليات بيع دولارات للصرافين وشرائها منهم، بالتوازي مع تقارير إعلامية أشاعت وجود رغبة خارجية بـ«التخلص» منه، ومشيرةً إلى أن «المعركة» بين الحكومة والقطاع المصرفي والتي قد تتطور إلى استخدام المصارف ورقة مقاضاة الدولة على خلفية التخلف عن سداد استحقاقات اليوروبوندز تشكّل «تصدعاً» خطيراً يمكن ان يسبب صداعاً مؤلماً للبنان في تَلَمُّسه طريق الخروج من الحفرة المالية العميقة.
ان محاولة لبنان الرسمي توجيه ما يفترض أنه إشارات ايجابية إلى المجتمع الدولي عشية بدء المفاوضات مع صندوق النقد، خصوصاً في ملفيْ الكهرباء والمعابر غير الشرعية مع سورية سرعان ما أُجهضتْ إما من داخلها أو بتعمُّد ربْطها بـ«صواعق المنطقة».
وفي هذا السياق، لاحظت الأوساط المطلعة أن الحكومة وجّهت صفعة لنفسها في ملف الكهرباء الذي يُعتبر مفتاح الدعم الدولي للبنان والمعيار الرئيسي لمدى جدية بيروت في التزام الإصلاحات، وذلك عبر السياق الذي رسا عليه في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء لجهة التسليم بترْك ورقة التفاوض مع شركات راغبة في إنشاء معامل إنتاج كهربائية في يد وزير الطاقة من دون المرور بإدارة المناقصات، مع القفز حتى الساعة فوق تعيين هيئة ناظمة للقطاع، في ظل معلومات عن أن هذا التطور خلّف انطباعات بالغة السلبية دولياً.
كما رأت الأوساط نفسها أن عنوان المعابر الشرعية وغير الشرعية مع سورية والذي «انفجر» بعد كشْف أنها تحوّلت «ثقباً أسود» لتهريب المشتقات النفطية والمواد الغذائية وهي مواد يستوردها لبنان من «اللحم الحي» أي بما تبقى من احتياطي دولار (بالسعر الرسمي أي 1515 ليرة) لدى البنك المركزي، لم يتأخّر في الدخول على خط الاشتباك الكبير في المنطقة، بعدما وضع الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله معالجته «في جيب» ترتيب العلاقة بين لبنان الرسمي والنظام السوري، مع نسْفٍ لقدرة الجيش اللبناني على ضبْط هذه الحدود.
وبقيت إطلالة نصرالله على هذا العنوان، الذي يُعتبر من شروط الإفراج عن المساعدة الدولية للبنان والذي تتعاطى معه واشنطن على أنه البُعد «السياسي والسيادي» في أي برنامج دعمٍ لبيروت لكونه من امتدادات عملية خنْق «حزب الله» على صعيد ممرات تسليحه واقتصاده الموازي، محط اهتمامٍ كبير لِما عكستْه من أهمية استراتيجية يعلّقها «حزب الله» على ما يشكّل «المقلب اللبناني» من معركة كسْر هلال النفوذ الإيراني الذي يشهد محاولة متجددة لقطْعه من شقه السوري، وهو ما يفسّر تَعمُّد نصرالله، وفق الأوساط نفسها تظهير الموقف من هذا الملف من موقع «المُمْسِك» بالقرار اللبناني والذي لم يتوانَ عن المجاهرة بأن حزبه «سمح» للحكومة بـ«تجريب حظها» مع صندوق النقد كما بالرغبة في نقْل لبنان بالكامل إلى حضن المحور الإيراني من بوابة ترتيب العلاقة مع النظام السوري في الوقت الذي كان مجلس الأمن ومجموعة الدعم للبنان يؤكدان أهمية التزام النأي بالنفس و “إعلان بعبدا”.