تَتَدافَعُ المُفارَقاتُ المثيرةُ للدهشةِ في الواقعِ اللبناني مع ازديادِ مؤشراتِ أكثر من صراعٍ يدور في قلْب الحُفْرة المالية العميقة، سواء بين أطراف الداخل أو على تخوم عناوين سياسية ترتبط بتموْضع «بلاد الأرز» الاقليمي، فيما لا يزال خطر «كورونا» ماثلاً بعدّاد أرقامه التي لم تُخْمِد وتيرتُها المنضبطة نسبياً في الأيام الأخيرة المخاوفَ من أن تشهد «وثبةً» جديدةً على متن أكثر من «خاصرة رخوة» ترتسم ملامحها في مناطق عدة أو عبر «الجسر الجوي» الذي يعيد منتشرين من عشرات الدول.
وفيما كانت الأنظار أمس، على انتهاء رباعية الإقفال التام في لبنان (ابتداء من فجر اليوم) التي أُعلنت لوقف الاندفاعة المخيفة لـ «كورونا» التي سُجلت في «الويك اند» الأسبوع الماضي وشكّلت «صعقة» لكل المسار الاحتوائي للفيروس، بقي العنوان المالي في رأس الاهتمامات عشية الاجتماع الجديد بين لبنان وصندوق النقد الدولي (عبر تقنية الفيديو) حول إمكان الاتفاق على برنامج تمويلي لبيروت بنحو 10 مليارات دولار، وذلك وسط خشية مزدوجة من تأثيرات الاضطرابات السياسية الناجمة عن «المعارك الصغيرة» بين مكوّنات الحكومة نفسها أو مع خصومها على عملية التفاوض مع الـ IMF التي بدأ يحاصرها أساساً اهتزاز جبهة المُفاوِضين اللبنانيين الذي ظهروا في أول جلسة «بلسانيْن» (في ما خص أرقام الخسائر المالية) والتي تواجه أيضاً إشاراتٍ مُقْلِقة انطلقت داخلياً باتجاهٍ إعادة وصْل ما انقطع رسمياً مع النظام السوري وصولاً إلى بوادر «اشتباكٍ» مع فرنسا خصوصاً في شأن ملف التنقيب عن النفط وذلك في ضوء النتائج الأولية لحفر أول بئر استكشافية في المياه الإقليمية اللبنانية من شركة توتال الفرنسية المشغلة والتي أثبتت عدم وجود مكمن غاز تجاري.
وانشدّت الأنظار طوال يوم أمس على الخطوة التالية للسلطات اللبنانية بعد إقفال الأيام الأربعة، والتي برز في إطارها سباقٌ بين منطقيْن: أوّلهما يحبّذ تمديد قفل البلاد لتجاوُز مرحلة عيد الفطر بأمانٍ في ظلّ استمرار تسجيل إصابات في صفوف المقيمين والوافدين وعدم انتهاء فترة الاحتضان لمُخالطي حالاتٍ عدة كُشفت (ولا سيما في المحكمة العسكرية) وجرّت إصابات في أكثر من منطقة، وصولاً لما أًعلن أمس عن وجود 17 حالة أتت نتيجتها إيجابية من أصل 124 عينة تم أخْذها في جديدة القيطع – عكار، الامر الذي استوجب عزل البلدة واستنفاراً في المحافظة وعلى صعيد وزارة الصحة.
والمنطق الثاني اعتبر أن الحالات التي وُثقت في الأيام الأربعة الماضية (من دون احتساب أرقام جديدة القيطع)، وكان آخِرها أمس حيث أُعلن رسمياً عن 9 إصابات (5 مقيمين و4 وافدين)، لا تستدعي تمديد الإقفال العام وخصوصاً في ظل «نداءات استغاثة» أطلقتْها قطاعات تجارية دعت إلى تخفيف تدابير التشدّد وفتْح المجمعات والأسواق في أسبوع العيد وإلا «أُعلنت وفاة» هذه القطاعات.
وفي السياق، قال وزير الصحة حمد حسن خلال جولة تفقدية على عدد من المستشفيات، أمس: «أصبح لدينا مناعة صحية وطنية على أعلى المستويات ضد فيروس كورونا»، منوها بأنه تم رفع جهوزية المستشفيات الحكومية جراء الفيروس.
وبينما كانت اللجنة الوزارية لمتابعة تطورات كورونا تعقد اجتماعاً في السرايا الحكومية لإصدار قرارها أعقبته كلمة لرئيس الحكومة حسان دياب، لم يحجب الهمّ الصحي عنوانَ الانهيار المالي الذي باتت البلاد بإزائه أمامه فرصة أخيرة لالتقاط «حبل نجاة» يشكّله الاتفاق مع صندوق النقد على برنامج التمويل الذي سيتطلّب بلوغه بين 3 أشهر و6 أشهر على أن يكون تسييل الأموال على دفعات – بحال حصول التفاهم – مرهوناً بالتزام لبنان الشروط الإصلاحية التي وردت في خطة الحكومة وما سيطرأ عليها من ملحقاتٍ أو تعديلات في ضوء مسار المفاوضات مع الـ IMF.
واستوقف دوائر مراقبة عشية جلسة التفاوض الثانية مع صندوق النقد أمران:
• الأول ما أعلنه الخبير الاقتصادي الأميركي البارز ستيف هانكي غداة كلام وزير المال غازي وزني عن أن لبنان مستعد لتلبية طلب الصندوق تحرير سعر صرف الليرة أمام الدولار «لكن بعد تلقيه الدعم الخارجي، على أن يُعتمد في المرحلة المقبلة سعر صرف مرن»، إذ قال في تغريدة على «تويتر»: «يبدو أنّ لبنان ابتلع سم صندوق النقد، إذ يخطّط لبنان لتعويم الليرة بعد أن تصل يداه إلى أموال صندوق النقد الإنقاذية»، متداركاً: «حسناً، لن تعوم الليرة على مياه هادئة. كلا، بل ستغرق الليرة كما يغرق الحجر في الماء».
• والثاني إطلالة رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل التي عكست احتدام الصراع السياسي بين «أهل الحكومة» كما مع قوى معارِضة، من دون أن تخلو من رسائل تلاقي دعوة الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله لترتيب العلاقة مع النظام السوري وتصوّب في الملف النفطي على نيات مبيتة وراء النتائج الأولية لعملية الحفر في البلوك 4، وهو ما يترك علامات استفهام حول تداعياته على المظلّة الدولية التي يحتاج إليها لبنان في مسيرته الإنقاذية.
وفي هذا الإطار، ردّ باسيل ضمناً على كل من زعيم «تيار المردة» سليمان فرنجية والرئيس السابق للحكومة سعد الحريري معلناً «أن رئيس الجمهورية في لبنان لا يسقط إلا إذا قرر الاستقالة وهذا ليس خيار الرئيس ميشال عون، لكن اذا تحقّقت فرصة التصحيح سيخرج أقوى مّما دخل ولذلك هم لا يريدون للفرصة ان تتحقّق ويتمنون الانهيار».
وفي حين أعلن «ان المواجهة ليست مع مجهول، بل مع منظومة فساد (…)»، داعياً إلى «تطوير النظام انطلاقاً من الدستور ومن اتفاق الطائف»، رأى أنه «عندما نتكلّم عن ضرورة الانفتاح على سورية، فليس بخلفيّة سوى حسن الجوار، لأنّ الأزمة السورية كانت احد أهم أسباب اختناق اقتصادنا وعلينا إعادة فتحه باتجاه عمقنا العربي من خلالها وفتح أبواب التصدير».
وأضاف في ملف النفط والغاز: «حفر أوّل بئر في بلوك 4 أكّد وجود غاز، ولكن يبدو أنّه بكميّات غير تجاريّة (…) ونحن أيضاً ننتظر تقرير الحفر لنطلع عليه وندرسه ونقرّر نحن أيضاً الموقف، لأنّه يحق لنا أن تكون لنا شكوكنا مما حصل وربطه بتصريحات بعض السياسيين، والتي وان كانت تنمّ عن حقد أو عدمه، لكنّها قد تكون مرتبطة بتسريبات أو طلبات، ومتأكّدون أن لدينا الكثير من المسؤولين اللبنانيين، الحريصين أيضاً على عدم التفريط بهذه الثروة وتقديم الهدايا المجانيّة لمن يعادينا أو ينافسنا».