كتب غسان بيضون في صحيفة “الجمهورية”:
تؤكد المستجدات الأخيرة بشأن خطة الكهرباء أنّ الحكومة اختارت اعتماد نهج وتوجّه مختلف في مقاربتها، تؤيدها في ذلك أغلبية القوى السياسية. وقد بَدا ذلك واضحاً من خلال اهتزاز التغطية السياسية، الذي حصل مؤخراً وانعكست تردداته بسقوط محاولة تمرير مشروع معمل سلعاتا ضمن خطة معالجة أزمة الكهرباء من خلال محاولات إجراء تفاهم مع أربع شركات عالمية، بحيث بات من الصعب الاستمرار بمسلسل الخطط السابقة بعد ضَعضعة التحالفات التي كانت تضمن تمرير الخطط، من خلال مجلس الوزراء مباشرة أو اللجان الوزارية التي لطالما ابتكرت المخارج وأمّنت العبور الآمن لدفاتر شروط وآليات تنفذ مشاريع الطاقة بطرق «خاصة واستثنائية» تتجاوز الأنظمة والقوانين المرعية الإجراء، ومنها البواخر الإضافية، وإعادة إحياء مشروع دير عمار. وقد جاء خروج الأمور عن السيطرة بعد فضيحة الفيول المغشوش، وقبلها إعلان توتال، المخيب للآمال حول وجود الغاز، الغامض والمثير للشك في توقيته وخلفيّاته وصياغته. هذا فضلاً عن الفشل مؤخراً في تأمين تغطية لمشروع معمل سلعاتا، المشوب بالأصل بأكثر من عيب وتشكيك، لا سيما حول الاستملاكات.
فماذا عن قناعة وزير الطاقة وتوجهاته في إطار هذا المشهد، بعد أن أحاط نفسه بـ»لجنة استشاريين» وتضاءلت حظوظ أي إمكانية جدية بعد لتحقيق إنجازات لمعالجة أزمة الكهرباء وفق النهج السابق، الذي أدى إلى فشل ذريع وتكبيد الخزينة خسائر بمليارات الدولارات، خلال السنوات العشر الأخيرة، فاقَمت مديونية الدولة تحت نظر ومتابعة مؤسسات التصنيف الدولية ومؤتمرات الدعم الخارجي، لا سيما وقد تم تكليفه بالتفاوض المباشر للحصول على عروض وتوقيع مذكرة تفاهم، بغية الوصول إلى أفضل الأسعار وأقصر مهلة للتنفيذ، فالسؤال المطروح هو هل أنّ الوزير سوف يغلّب المصلحة العامة على أي اعتبارات أخرى هذه المرة، فيستجيب للعمل بالانسجام مع سياسة الحكومة الحالية، أم انه سوف يظل مقيداً بنهج أسلافه؟
إنّ التلزيم المتوخّى من تكليف وزير الطاقة بالتفاوض، لا بد أن يتكرس بإجراء مناقصة وفقاً للقوانين النافذة والمرعية الإجراء، فهناك القانون رقم 48 / 2017 المتعلق بتنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والمعلّق تطبيقه على وجود الهيئة الناظمة، التي ما زال وزراء الطاقة يتهربون من وجودها، فكان القانون 288 / 2014، الذي أجّل تعيينها لمدة سنتين، والقانون 54 / 2015، الذي أجّلها لسنتين إضافيتين ومؤخراً القانون 129 / 2019، الخاص بتلزيم معامل إنتاج الكهرباء، الذي استغنى عن وجودها لـ3 سنوات أخرى، بحيث يتم تلزيم مشاريع بناء المعامل بطريقة الـ BOT، بشروط تحدد في دفتر شروط خاص تعده وزارة الطاقة، على أن تطبّق أحكام قانون المحاسبة العمومية وسائر النصوص ذات الصلة بأصول المناقصات، باستثناء تلك التي لا تتفق مع طبيعة عقود شراء الطاقة (PPA). وقد جرى الطعن أمام المجلس الدستوري، وأبطلت الفقرة التي ابتغَت استثناء هذه التلزيمات من بعض أحكام قانون المحاسبة العمومية وتجاوز رقابة إدارة المناقصات.
ونذكر بأنّ الحكومة السابقة في آخر جلسة لها، وافقت لوزيرة الطاقة على دفتر شروطها، من دون العودة إلى إدارة المناقصات، وأجازت تعيين خبراء من فريقها للمشاركة في تقييم العروض، في نية واضحة لتهميش دور إدارة المناقصات ومحاصرتها.
ويبدو أنّ الحكومة الحالية في بحثها لخطة الكهرباء وتفويض وزير الطاقة التفاوض مع 4 شركات توصّلاً إلى وضع مذكرة تفاهم، تجاهلت وجود هذه القوانين والآلية المنصوص عليها فيها لتلزيم هذه المعامل بموجب مناقصة تراعي أفضل الشروط الفنية والتمويلية الواجب عرضها في إطار منافسة شفافة.
وبالنسبة لتكليف وزير الطاقة بالتفاوض مع الشركات من يضمن عدم تحيّز ما يقدمه لهذه الشركات من معلومات لتشجيعها على تفضيل المشاركة في بناء «معمل سلعاتا «الأسهل تقنياً» دون غيره على سبيل المثال، وبالتالي جعلها تنصرف عن التفكير بغيره بذريعة أو بأخرى. ويجب ألّا نغفل ما دار من تشكيك بخلفيات استملاكات سلعاتا التي تم تقديرها بـ 200 مليون دولار، في آخر صيغة لخطة الوزيرة البستاني، وبعد الكشف عن كتاب صادر عن مؤسسة كهرباء لبنان يؤكد أنّ التقديرات تتجاوز الـ 200 مليون دولار، تراجعت عن هذا الرقم إلى 30 مليون دولار، بحجة وجود خطأ مادي، واعترفت بمساحات من استملاك قديمة لعقارات في منطقة حامات المجاورة لسلعاتا، أنجزت كامل إجراءاته خلال العام 1978 ودفعت التعويضات اللازمة لأصحاب العقارات المستملكة، وتم وضع اليد عليها.
ويبدو أنه بعد العام 2010 انطلقت عملية، الأرجح أن تكون «منظّمة»، بهدف «تعطيل» المنفعة من هذه الاستملاكات بعدة طرق، منها المباشرة بمراجعات قضائية أقامها بعض أصحاب العقارات المستملكة لاستردادها، بعد انقضاء أكثر من 30 سنة على استملاكها، والاستحصال على إفادات من وزارة الثقافة بوجود آثار «دينية» في بعضها. وكان آخرها قيام مؤسسة كهرباء لبنان بإعارة عقارات منها لوزارة البيئة لتخزين محوّلات تحتوي على مادة الـ«بفينيل» الضارّة بالبيئة.
وحيث انّ المادة 33 من قانون الاستملاك رقم 58 / 1990 ألغيت واستعيض عنها بنص يجيز لمالك العقار استرداده وإنما خلال سنة بعد انقضاء العشر سنوات من تاريخ قرار وضع اليد من دون المباشرة بتنفيذ المشروع،… وفي حال انقضاء مهلة السنة هذه من دون أن يتقدّم المالك بطلب الاسترداد حسب الاصول، حق للإدارة ان تقيد العقارات ملكاً خاصاً لها، نسأل كيف ولماذا تم استرداد عقارات مستملكة منذ العام 1978 لإنشاء معمل كهرباء، بنتيجة مراجعات وأحكام بوجود المادة 33 من قانون الاستملاك، وهل صدرت فتاوى واجتهادات ما، مراعاة لمستثمري الأنشطة المستجدة بجوار المنطقة المستملكة، و/ أو لإفادة أصحاب العقارات الجديدة المطروح استملاكها؟ إنّ الإصرار على سلعاتا يستدعي التساؤل حول وجود مصالح خاصة، وإجراء تحقيق حول ملف الاستملاك وأصحاب العقارات المستملكة قديماً، ومراجعة جميع حالات الاسترداد، والتحقق من قانونيتها، وأخذ ما يُحكى اليوم عن العودة إلى استملاك ذات العقارات المستردّة وبتخمينات أعلى بعين الجدية والاعتبار.
إنّ تغير الظروف يضع وزير الطاقة أمام فرصة جدية لتصحيح مسار سابقيه، غير أنّ ما وردَ في كلمة وزير الطاقة الأسبق بالأمس من كلام غير مُقنع سمعناه من «ورثته في الطاقة» حول وجود مجلس إدارة الكهرباء وعدم جدوى الهيئة الناظمة وربط تعيينها بتعديل القانون 462، وكذلك عن حصة القطاع من الدين العام، لا يشجّع، وليس لنا إلّا أن ننتظر ونراقب، وإنّ غداً لناظره قريب!