كثيرة هي المحطات التي أظهر في خلالها لبنان ما يمكن تسميتها “مناعة سياسية ضعيفة” لم تتح له الخروج من كبريات أزماته من دون الرهان على أن “اصدقاءه” الدوليين لن يتخلوا عنه عندما تدق ساعات الاستحقاقات الكبيرة.
قد يكون اتفاق الطائف الذي أنهى الاقتتال اللبناني المقيت المثال الأفضل لهذه “الصداقات” التي أنقذت لبنان عند مفترقات خطيرة، على أن الأمر عينه ينطبق على اتفاق الدوحة الذي أقر في 21 ايار قبل 12 عاما، وأنهى أزمة رئاسية وسياسية قد تكون الأخطر.
في هذا الاطار، تدعو مصادر سياسية مراقبة عبر “المركزية” إلى استعادة السياق السياسي الذي اوصل إلى هذا الاتفاق، في محاولة لفهم تأثيراته على الساحة السياسية. وتذكر المصادر أن قرارين اتخذتهما حكومة الرئيس فؤاد السنيورة كافيان لإشعال فتيل خطير ذكر بمشاهد الحرب الأهلية. ذلك أن مجلس الوزراء اتخذ، في جلسته الشهيرة التي عقدت في 5 أيار 2002 قرارا ينص على اعتبار شبكة الاتصالات التي يملكها حزب الله غير شرعية. كما قرر اقالة رئيس جهاز أمن المطار وفيق شقير (المحسوب على حزب الله) من منصبه، على وقع كشف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ثغرة أمنية خطيرة في المطار، في مؤتمر صحافي عاصف لا يزال ماثلا في الأذهان.
وفيما يعتبر كثيرون أن امتعاض حزب الله من قرارات حكومة الرئيس السنيورة كان أمرا طبيعيا نظرا إلى السياق المتفجر للعلاقات بينه وبين تيار المستقبل، إلا أنها تلفت إلى أن الأهم يكمن في أن الرد هذه المرة لم يكن كلاميا أو سياسيا، بل أتى مسلحا، استخدم فيه الحزب ترسانته ضد اللبنانيين للمرة الأولى، حتى أنه لم ير ضيرا في اجتياح بيروت والجبل، في رسالتين مباشرتين إلى الرئيس سعد الحريري ووليد جنبلاط حملتا عزفا مرعبا على الوتر الأمني اللبناني الحساس.
من رحم هذا المشهد المرعب الذي أتى في عز فراغ رئاسي طويل، ولدت مبادرة دولية أدت إلى جمع الأقطاب اللبنانيين حول طاولة حوارية في الدوحة انتهت إلى ما عرف باتفاق الدوحة، الذي بدا بمثابة خارطة الطريق للمرحلة الجديدة، على أن تبدأ بانتخاب قائد الجيش آنذاك، الخارج منتصرا من معركة نهر البارد، العماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية.
وفي وقت حل هذا الاتفاق الأزمة الرئاسية، فإن الموضوعية تقتضي الاعتراف بأنه فتح باب الحروب التحاصصية على الغارب وأتاح لحزب الله فرض إرادته وتوازناته على الصورة، فكان له ما أراد من ثلث معطل أطاح من خلاله حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى. على أن هذه المعادلة لم تقتصر على ما بعد انتخابات الـ2009 بل استمرت عقدا من الزمن تعطل خلاله مسار تأليف الحكومات مرارا وتكرارا، إلى أن حلت حادثة قبرشمون في حزيران 2019 وشلت الحكومة شللا تاما، قبل أن تطيحها الثورة، وينجح الحزب وحلفاؤه مجددا في فرض ايقاعه العام في البلاد والامساك بزمام السلطة من خلال انتخاب مرشحه الرئاسي وتشكيل حكومة تناسب مصالحه الاقليمية. ما يعني ان اتفاق الدوحة حل أزمة، لكنه أشعل أخرى سيستهلك طي صفحتها كثيرا من الوقت السياسي المستقطع.