كأنه «الرقص فوق الجثث». عبارةٌ تكاد أن تختصر المشهد في «بلد العجائب» لبنان حيث تتسابق كوابيس الواقع المالي – الاقتصادي – المعيشي مع أحلام سياسية «مستعادة» أو تطلّ على أجنداتٍ بدأت تخلع «عباءة الإخفاء».
ولم يكن ينقص «بلاد الأرز» في الطريق إلى «صدمةٍ كهربائية» باتت بأمس الحاجة إليها لتُعيد الخفقان إلى الوضع المالي – الاقتصادي، سوى «استيقاظ» الصراع على نظام الطائف «المطلوب رأسه» من أكثر من طرف داخلي باعتباره ناظم التوازنات من خارج تأثيرات وهج السلاح وغَلَبته.
وفيما كان الفطر السعيد يحلّ في أول أيامه بمسْحة حزنٍ غابتْ معها مظاهر العيد الذي نكّس هلال الفرح أمام قوس الأزمات ووطأة انهيار الليرة وسطوة «كورونا» الذي يمْضي في «رمي شِباكه» المُرْعِبة، من دون أن تنجح مشهدية ثلوج مايو النادرة التي تَساقطتْ وكّللت المرتفعات ابتداءً من 1900 متر في تبديد سودوية الواقع المؤلم، باغتت المسرحَ السياسي المشدود إلى مفاوضاتٍ مصيريةٍ بدأت مع صندوق النقد الدولي على برنامج تمويلي (يمتدّ حتى 2024) للبنان قنبلةٌ مدوّية فجّرها المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان بإعلانه «موت الصيغة اللبنانية» ورفْعه «لا» صريحة لـ«(نظام) الطائف، لا لمزرعة الطوائف، لا لدولة الحصص، لا لنظام المحاصصة».
و«بلا قفازات»، تحدّث قبلان في الرسالة التي وجّهها لمناسبة عيد الفطر عن «أننا لن نقبل بظلم، أو فساد أو اضطهاد، أو استئثار، ونرفض رفضاً قاطعاً القبول بصيغة حكم فاسدة أو مشاريع حكم تصر على الطائفية والانتهازية السياسية وأشباهها»، معتبراً «أن أصل نشأة لبنان تم على أساس طائفي واستبدادي، بوظيفة خدمة المشروع الاستعماري والاحتكاري، وهذه الصيغة قد انتهت، وما قام به بشارة الخوري ورياض الصلح لم يعد يصلح لدولة إنسان ومواطن، بل أيضاً مرحلة وانتهت»، ومؤكداً أنه «لحماية البلد وكسر الوثنية السياسية وتأكيد العيش المشترك والسلم الأهلي فيه، نحن مطالبون بإسقاط الصيغة الطائفية لصالح دولة مواطن، دولة لا طائفية».
وأضاف: «(…) كفانا تمسكاً بنظام سياسي بائد أفلس البلد، وذبح آمالنا. لذلك، وبالفم الملآن أقول: لا للطائف، لا لمزرعة الطوائف، لا لدولة الحصص، لا لفيديراليات الطوائف والمتاريس، نعم لصيغة حكم، بعيداً عن الطائفية السياسية والمزارع الاحتكارية».
وتابع: «لم نعد في حاجة إلى فترة انتقالية، كفانا فترات انتقالية وهمية (…) البلد الآن في القعر، البلد الآن بعد تجربة 100 سنة، وبالأخص تجربة التسعينات وصاعداً انتهى، وتحول إلى شركة مفلسة، ودولة منهوبة، وشعب محتكر من قوى المال والأعمال والسياسة (…)».
وحضّ قبلان الحكومة على «فتْح خط رسمي مباشر مع دمشق بخصوص النازحين، والانفتاح الكامل على كل الدول، وخصوصاً أسواق الشرق، كطريق إنقاذ رئيسي»، محذراً من «أن صندوق النقد ليس مفصولاً عن السياسة، ولبنان بلد له وظيفته السياسية ومشروعه الوطني والأخلاقي، وأي لعب بالأولويات يعني كارثة، ولا نريد 17 مايو جديداً، ما يعني أن الإصلاح يبدأ من خيارات الدولة الداخلية الإنقاذية، ولا سيما باتجاه أسواق الشرق».
وجاء هذا الموقف الصاعق ليطرح علامات استفهام حول خلفياته ومآلاته وهل يشكّل «تدشيناً» لمعركة تغيير النظام التي لطالما كانت القطبة غير المخفية في الشقّ اللبناني من مشروع «حزب الله» بامتداده الإقليمي أم أنه من ضمن عملية «ترسيم حدود» داخلية على تخوم طروحاتٍ سياسية – إدارية وتجاذبات حول ملفاتٍ دسمة (مثل الكهرباء ومعمل سلعاتا) استدرجت «حروباً صغيرة» بين مكوّنات حكومة الرئيس حسان دياب.
وفي حين رأت أوساطٌ واسعة الاطلاع أن هذا المناخ الذي سواء عبّر عن فوضى أولويات أو مهّد لـ«قلب الطاولة» يعكس في جانبٍ منه خطورة الواقع اللبناني الذي عوض أن يكون تركيز الأطراف الوازنة فيه على قفْل «باب الريح» المالي يجد نفسه مشدوداً إلى مخاوف من «فتْح باب جهنّم» سياسي، فإنها اعتبرت أنه يعبّر في جانب آخَر عن أن هذه الأطراف باتت تتعاطى مع نظام الطائف على أنه صار «جثّة» يستحضرون فوقها إما مشاريع – أحلام على حدود طائفية ضيّقة لها بعض المنابع في طروحاتٍ من زمن ما قبل الطائف وإما مشاريع بحجم «الطائفة القائدة» (المكوّن الشيعي) التي باتت تعتبر أن النظام صار أضيق من فائض قوّتها ومداها الإقليمي ومتوقفة في هذا الإطار عند نقطتين:
• الأولى تَزامُن «دقّ نفير» تغيير النظام من قبلان مع كلامٍ إما أحيا الصيغة الفيديرالية التي جرى تداوُلها في بيئات مسيحية إبان الحرب الأهلية، أو بدا بمثابة «نسخة مصغّرة» عنها في إطار محاكاة الأزمة المالية وسلّة الخيارات لمواجهتها.
وكان رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل جاهر الأحد الماضي، بالقول إن «مشكلة البلد الأكبر هي الطائفية التي تحمي الفساد، وضرورة معالجة أزمة النظام السياسي، لأن ما يمنعنا فعلاً من تحقيق ما نريد هو هذا النظام الذي يحتاج الى إجماع في كلّ شأن»، سائلاً «ألا يجب استغلال الفرصة الآن لتطوير هذا النظام انطلاقاً من الدستور ومن اتفاق الطائف، أولاً باعتماد اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة (…)».
• والثانية أن إشارة قبلان إلى السوق المشرقية التي كان الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله أوّل من تحدّث عنها، تجعل مشروعاً السؤال عما إذا كان مجمل اندفاعة المفتي الجعفري الممتاز على خطّ نعي نظام الطائف في سياقٍ تمهيدي لوضع هذا الملف على الطاولة أم في إطار محاولة فرْملة أي تدويل للواقع اللبناني من بوابة الأزمة المالية والمفاوضات مع صندوق النقد.
واستوقف الأوساط نفسها أنه بالتزامن مع «قنبلة» قبلان، كان مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان يطلق في خطبة عيد الفطر في جامع محمد الأمين، موقفاً تحت سقف الطائف، بقوله «إننا لا نقبل الإخلال بالدستور، ولا تهميش رئاسة الحكومة أو المسّ بصلاحيات رئيس الحكومة، ليس لأن في ذلك تجاهلاً لتراتبية المؤسسات الدستورية، وحقوق طائفة من مكوّنات لبنان الرئيسية فقط، بل لأن الإخلال بالدستور، يصنع أزمة سياسية، تقع في أصل الانهيار الكبير الذي يعانيه لبنان».
من جانبه، أدى رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، صلاة العيد في مسجد الإمام علي في الطريق الجديدة، حيث تجمع مناصروه حول موكبه بطريقةٍ تخرق بشكل واضح شروط السلامة العامة، وهتفوا له «بالروح بالدم نفديك يا سعد».