كتبت ميسم رزق في “الاخبار”:
بينما تقِف البلاد على مفترقات، مالية وسياسية، تنعكِس الضغوط الخارجية على المشهد الداخلي انقساماً لدى الفريق المشارك في الحكم. وقد بدأ الحديث عن تغييرات قد تطاول الحكومة، وإعادة إحياء ملفات خلافية، كالترسيم البري والبحري للحدود مع فلسطين المحتلة
على نحوٍ مُتسارِع، يمضي لبنان إلى مصيره. يكادُ زنّار الحصار يكتمل، ليتأكّد يوماً بعد آخر، أن ما يجري هنا، يرتبط مُباشرة بما يُراد لسوريا، ثمَّ العراق فإيران. المِنطقة على بُعد أسابيع قليلة، مِن دخول قانون «قيصَر» حيّز التنفيذ، ومعه مشروع السيناتور تيد كروز العِدائي المُختصّ بوقف المُساعدات عن لبنان (لا يزال مدار نقاش). وبينما المطلوب إحكام الخناق في الاتجاهين ــــ بدأت طلائعه بإثارة ملف التهريب عبر المعابر الحدودية غير الشرعية ــــ فإن متغيّرات المُستقبَل المنظور، المُتوقعة من هذا الحصار، تجعَل القوى السياسية تتخبّط بشكل بدأ ينعكِس سلباً على علاقاتها بعضها ببعض، من داخِل البيت الواحد، وعلى عمل الحكومة التي باتَت مهدّدة بالتفجير إما من داخِلها، أو بفقدان غطاء منظومة الحكم الطائفي، كما على علاقة رئيسَي الجمهورية والحكومة.
الأميركيون عيونهم مفتوحة، وأسلحتهم السياسية والاقتصادية موجّهة لانتزاع تنازلات لبنانية إضافية في ملفات تتوافق مع المصلحة الإسرائيلية، بالدرجة الأولى، كملف ترسيم الحدود البرية والبرية. فمَن وجدَ تهاوناً في قضية عميل بحجم عامِر الفاخوري سيطمَع أكثر ولن يتوانى عن مُحاولات تحصيل ما يُمكِن تحصيله إذا تأمّن الطامحون بالتعاون في هذا الملف أيضاً، حماية لأنفسهم من العقوبات. وفي الكواليس السياسية كلامٌ عن تبعات إسقاط معمل سلعاتا لإنتاج الكهرباء في مجلس الوزراء. المُناوشة التي حصلَت في مجلِس الوزراء كشفت الكثير من المستور. ما تظهر على ألسُن عدد من نواب التيار الوطني الحرّ في اتجاه حزب الله، لا شكّ يحمِل نيات مُبيّتة، مهما جرى وضعه في خانة «الموقف الشخصي». هذا أول تطوّر أطلق جهاز الإنذار على خطّ العلاقة بينَ الطرفين، وأكّد أن تصعيد اللهجة ضد الفساد والتهديد المُبطن بالفيدرالية، إنما له خلفيات تتعلّق بما يريد رئيس تكتّل «لبنان القوي» جبران باسيل تحصيله وصرفه شعبياً على شكل إنجازات. غيرَ أن تطوّراً آخر تزامَن مع هذه الحملة، تمثّل بالغداء الذي جمَع باسيل بالسفيرة الأميركية الجديدة دوروتي شيّا في اللقلوق، بعدَ شهر واحد من لقاء التعارف بينهما. خرجَ خبر اللقاء إلى العلن، على عكس ما أراده باسيل، مخافة أن يُحسب عليه وكأنه محاولة لاستفزاز الحزب كونه أتى في لحظة الحنق العوني من الحزب.
حتى شيّا تريّثت في قبول الدعوة، كي لا يُفسّر ذلِك دعماً لباسيل. وترصد القوى السياسية المدى الذي ستبلغه هذه الجلسات، فيما لو أراد باسيل استثمارها لمصلحة معركة رئاسة بدأت باكراً، في ظل التدافع الليّن مع الحزب. فقد ترددت بعض المعلومات عن أن الجانب الأميركي استنأنَف طلبه بحسم ملف ترسيم الحدود الجنوبية، وأن هذا الملف كانَ حاضراً على الطاولة بين السفيرة وباسيل، كما كانَ بينَ الأخير والموفدين الأميركيين الذين زاروا لبنان سابقاً.
وبينما زعَمت المعلومات أن «باسيل ليسَ بعيداً عن التوجه الأميركي، وهو يعبّر عن إيجابية للتعاون»، أشارت إلى «اندفاع باسيليّ لتسريع تحريك القضية» من دون أن تتوضّح التفاصيل حتى الآن. وفيما لم تستبعِد مصادِر مطلعة أن «يسعى باسيل إلى مسايرة الأميركيين فيما لو اقتضَت معركته الرئاسية ذلِك»، ذكّرت بموقفه والرئيس ميشال عون، حينَ كانَ التفاهُم مع رئيس الحكومة السابِق سعد الحريري قائماً، وقد حملَ الطرفان رأياً واحداً إلى مجلس الدفاع الأعلى، مؤيداً لفصل الترسيم البري عن البحري، لولا موقِف حزب الله والرئيس نبيه بري الحاسِم بالرفض. وقد ذهبت المصادِر إلى أكثر من ذلِك، مشيرة إلى التنسيق بين باسيل والأميركيين، بالعودة إلى ملف العميل الفاخوري، حينَ تواصل روبرت أوبراين، مستشار الأمن القومي الأميركي مع بعبدا لإطلاق سراحه، مع ضغط دبلوماسي موازٍ، وكانَ للأميركيين ما أرادوا. غيرَ أن هذا الجوّ لا يزال محدوداً، وخاصة أن مصادِر مُطلعة في 8 آذار جزمت بأن أحداً لم يُثِر الأمر، أقله مع الفرقاء المعنيين، مؤكدة أن «باسيل أذكى من أن يعِد الأميركيين بما لا يملِكه، وهو يستطيع أن يرجِع إلى ما حصلَ مع الحريري ومحاولاته الساعية إلى سحب التفاوض من يد بري، وتحويله إلى مجلِس الوزراء». المصادِر نفسها تذكّر بـ«عقلانية الرئيس ميشال عون وباسيل، ومعرفتهما بحساسية عدد من القضايا بالنسبة إلى المقاومة، فلا يغامران بذلك، ويعرفان أن الملف في عهدة رئيس مجلِس النواب، وسيستكمَل وفقَ الآلية التي اشترطها لبنان، وغير ذلِك مش وارد».
جزءٌ آخر من المستور، كشفه «سلعاتا» مُرتبِط بعلاقة الرئيسين عون وحسان دياب. الأكيد أن الودّ بين الطرفين مفقود، وكل منهما يشدّ بحبل الصلاحيات، حتى يكاد ينقطع. عاشَ دياب لعبة حكومة «التكنوقراط» حتّى صدّقها، بما لا يتناسَب مع الأهداف العونية المُراد تحقيقها من داخِل الحكومة. أولاً، في ملف تعيين محافظ بيروت، حينَ أصرّ دياب على إجراء التعيين من خارِج العرف التقليدي للطوائِف، اعتبر عون أن دياب «يفتَح عليه فتوحات على الساحة المسيحية». ثمّ جاءَ ملفّ الكهرباء، ليلمس عون وباسيل «نزعة استقلالية» لدى دياب تُحصّنه في الساحة السنية، فلا يظهر بنسخة متكرّرة عن الحريري. وهذه النزعة كانَ لها أثرها الواضح في خطة الكهرباء، حيث اتخذ دياب منحى مغايراً لما يريده العونيون، فسقط اقتراح معمل سلعاتا من خطة الكهرباء التي أقرها مجلس الوزراء (التفاوض مع الشركات المنتجة للمعامل). لكن عون لم يستسلِم. سعى سابقاً إلى طرح الملف من جديد على طاولة مجلس الوزراء، بعد سقوطه في جلسة عُقِدت في السرايا الحكومية لا في بعبدا. لكنه تراجع بعدما اصطدم برفض دياب الحاسم، وصولاً إلى تلويح بالاستقالة في حال أعيد طرح الأمر على مجلس الوزراء في بعبدا. ويوم أمس، سلك عون طريقاً آخر، من داخل الدستور، فقرر رد قرار مجلس الوزراء، ليُعاد فيطرح على التصويت. وهذا الرد من الصلاحيات الواضحة لرئيس الجمهورية، ولا يُعدّ تعدّياً على صلاحيات رئيس الحكومة. لكنه، سياسياً، مؤشر إلى أن الأمور بين الرئيسين ذاهبة نحو التصعيد.
أداء دياب، والذي يتجلّى أيضاً بمحاولته فرض الشروط التي يريدها منذ تشكيل الحكومة عبرَ الإيحاء بأن حكومته لا علاقة لها بالتركيبة السياسية، إلى حد تهديده بالاستقالة أكثر من مرة، إذا استمرت الضغوط عليه، خلق ميلاً لدى البعض لفرط الحكومة، واستبدالها بأخرى، أو إجراء تغيير جزئي في داخلها، عبرَ تفخيخها بوزراء سياسيين. غيرَ أن مصادِر ٨ آذار أكدت أن «الفكرة غير واردة إطلاقاً»، وكل التأويلات والتحليلات في هذا المجال هي انفصال عن الواقع اللبناني الحالي الذي لا يحتمِل أي مُغامرة حكومية.