كتبت ميشال الشماعي في صحيفة “نداء الوطن”:
يخطئ من يظنّ أنّ وهج بكركي خبا. هي الحاضرة دائماً وأبداً والمدافعة عن الكيانيّة اللبنانيّة. وهي التي ورثتها عن تاريخ بلغ من العمر أكثر من ألف وأربعمئة سنة من العرق والتعب والدّموع والدماء. حملت لواء المقاومة اللبنانيّة حتّى وصل الكيان اللبناني إلى شكله اليوم في إطار 10452 كلم2. واللافت في هذه المرحلة، التّغيير في الأدبيّات السياسيّة التي ألفها اللبنانيّون منذ ولادة لبنان الكبير وحتّى مئويّته الأولى.
معروف أنّ مواقف بكركي لا تأخذ هذه الحدّة إلا عندما تستشعر التّهديد الكياني والخطر الوجودي للبنان الحرّيّة. رفعت بكركي السّقف على أثر ما ارتكبته الحكومة، في ملفّ أزمة مصرف لبنان، حيث أعلنت حرباً ضروساً على المؤسسات التي أرسى قواعدها الرّئيس فؤاد شهاب، في محاولة من فريق السلطة الذي يقوده “حزب الله”، لضرب الكيانيّة الماليّة للكيان اللبناني بغية إسقاطه. فتراجعت الحكومة وأقرّت الخطّة الاصلاحيّة بعدما هزّ البطريرك الماروني عصاه.
وهكذا أسقطت بكركي الانقلاب الذي كان يستخدم البوابة الماليّة للولوج إلى صميم الكيان اللبناني لإسقاطه. فهويّة لبنان واضحة، ليست بحاجة لأيّ تعديل. لقد قبلت بكركي في العام 1990 بإسقاط تمايز ميثاق 1943 من حيث العروبة، لتثبّت عروبة الوطن بوفاق 1990. وهذا ما لم نندم يوماً عليه. فبنهاية المطاف جبالنا وودياننا من هذا الشرق الفسيح. ونحن منه وفيه وله.
سقط هذا الخيار الذي كان تحت ستار معالجة الأزمة الماليّة. وأقرّت الخطّة. من البديهي أنّنا نعاني أزمة خطط وقوانين؛ فيما الشحّ يكمن في التنفيذ. المطلوب واضح ومعروف. وعلى ما يبدو اللجوء إلى صندوق النقد الدّولي قد باء بالفشل. والمبرّر هو أنّ للدولة اللبنانيّة مقوّمات ماليّة، لكنّها ترفض الاستحصال عليها لغايات سياسيّة. ولعلّ أبرزها ربط إقفال المعابر غير الشرعيّة بالبعد الاستراتيجي لـ”حزب الله”. ما يعني بأنّ الحزب هو مشارك في عمليّة الفساد، ويتحمّل الجزء الأكبر من التهرّب الضريبي، على الأقلّ عند الحدود.
لذلك انتقل إلى استفزاز من نوع آخر. لكنّ بكركي، حارسة الكيان كانت له بالمرصاد كما كانت دوماً لمن سبقه وحاول وفشل في محاولته. هذه المرّة أتى الاستفزاز من ملفّ الخلاف العقاري في بلدة لاسا بعد التغيير السوسيولوجي الذي نجح به في عمق كسروان وجبيل، وذلك تحت مباركة في كنيسة مار مخايل في الشياح العام 2006. إلا أنّ بكركي هزّت العصا لأنّ حقيقة الخلاف ليست حول المسح الذي جرى في العام 1939 بل أبعد بكثير. وما لم يدرك بعد باقي المكوّنات الحضاريّة اللبنانيّة بخطورة ما يقدمون عليه، من عدم مواجهة واستسلام، فستطالهم هذه الحرب الكيانية حتماً، في عقر جبل بني معروف، أو حتّى في إقليم الخرّوب وحارة صيدا وأبي سمراء وغيرها. فلن تسلم أيّ بقعة من البقاع اللبنانيّة من هذه الهجمة الكيانيّة التي ليست بجديدة، إنّها تُستَحضَر لحظة يتفوّق أيّ مكوّن حضاري لدرجة الشعور بالانتفاخ والنشوة.
والموقف الذي تجلّى بصوت المطران عنداري ما هو إلا صدى أروقة بكركي وأودية قنّوبين معطوف عليه من كان عن يمينه، أي النّائب شوقي الدكّاش، ربيب المقاومة اللبنانيّة وابن كسروان الأبيّة. لذلك كلّه، بكركي قالت ما قالته ومشت. وللتاريخ ذاكرة تشهد على مجدها وعنفوانها وكرامتها. فلا يجرّبنّ أحد بكركي وأبناءها. ومن له أذنان للسماع فليسمع.