كتب جورج العاقوري في صحيفة “نداء الوطن”:
تشكل الاحزاب بمفاهيمها الحديثة والمرنة حاجة ماسة لأي حياة سياسية بعيداً من البنية التقليدية للاحزاب والتي كانت في معظمها متصلبة او متزمتة. لكن مشروعية اي حزب سياسي تسقط متى سقط مشروعه بفعل متغيرات بنيوية أكانت سياسية او جيو- سياسية او سوسيو- سياسية او اقتصادية، او بفعل التدجين بالترغيب والترهيب. حينها، يتحول الحزب اذا كان لديه طابع عسكري او أمني الى “بندقية للايجار” والى “بوق” ضمن جوقة في اللعبة السياسية.
لقد شهدت الايام الماضية مؤشرات جديدة تؤكد المؤكد ان الحزب “السوري القومي الاجتماعي” الذي أسّسه انطون سعادة أصبح في خبر كان، وان الحزب القائم اليوم لا يمتّ الى طرح سعادة بصلة سوى بما تبقى من “فولكلور” حزبي.
فطرح سعادة وفلسفته يبقيان مدرسة فكرية وان اختلفنا معها في العمق، ولكن مدرسة بتوسلها العنف والانقلابات للوصول الى السلطة وبطروحاتها من الهلال الخصيب وسوريا الطبيعية امة تامة الى تفوق السوريين النفسي والعقلي و”تأليه الزعيم” ربما أمكن ترويجها في مطلع القرن العشرين وهي المستنسخة بنواحٍ منها من النازية والفاشية، لكنها اليوم خارج السياق السياسي القائم اقليمياً ومفهوم الدولة الرائج عالمياً. هي في الاساس تحمل بذور زوالها بما تحمله من فوقية وعنجهية ومن ارتكاز على هلال نظري على الورق مع نجمته قبرص. وقد فشل الحزب نسبياً او عاكسته الظروف او انهكته الضغوط بالترويج لافكاره في الدول التي تكون منها الهلال ما خلا لبنان وسوريا رغم ان الحزب حُظر فيهما لفترة طويلة وتفسخ اجنحة كان لنظام الاسد الاب والابن دور محوري في طغيان بعضها على البعض الآخر وفي السيطرة على الاطار الرسمي للحزب.
ربما من النواحي المشرقة في طروحات سعادة المبدأ الاول من المبادئ الإصلاحية وهو “فصل الدين عن الدولة”. الا ان الحزب “القومي” بنسخته الحالية في لبنان بلغ حالاً من الانفصام عن فكر سعادة الى حد مشاركة نائبيه اسعد حردان وسليم سعادة في الاجتماع الارثوذكسي في مطرانية بيروت في 4/5/2020 للبحث في شؤون الطائفة والتعيينات والتهميش الذي يطالها.
هذه المشاركة ليست بسابقة، اذ اضحى النواب القوميون يشاركون في لقاءات ذات طابع مذهبي وطائفي كمشاركة النائب السابق مروان فارس على سبيل المثال في الاجتماع الذي عقد في 31/9/2014 عشية انتخابات المجلس الاعلى للروم الكاثوليك في منزل النائب الراحل الياس سكاف حيث تم التوصل بينه وبين النائب السابق ميشال فرعون الى لائحة توافقية.
هذه الخطيئة المميتة بحق فكر سعادة ليست الوحيدة اذ انتهى الحزب ملحقاً بـ”حزب الله” مع ما في ذلك من خطيئة مزدوجة كون “حزب الله” حزباً مذهبياً من جهة وولاءه للولي الفقيه وللجمهورية الاسلامية الايرانية ببعدها الفارسي من جهة أخرى.
تقلص جماهيري
هذا الانفصام العقائدي يقابله تقلّص جماهيري تظهّر بشكل جلي في الانتخابات النيابية الاخيرة العام 2018 حيث اظهرت الارقام اضمحلال اصوات القوميين في صناديق الاقتراع وعجزهم عن الترويج لمرشحين حزبيين في دوائر عدة. وما العروض العسكرية للقوميين في الحمرا الا “زوبعة” في فنجان لا يمكن ان تخفي تقهقر القواعد الحزبية عددياً.
ففي بعلبك – الهرمل، ضُمّ النائب البير منصور الى كتلة القوميين جائزة ترضية وهو المنافس اللدود تاريخياً للنائب القومي السابق مروان فارس، وذلك بهدف “نفخ” الكتلة كي تبلغ مع “البعث” اربعة نواب ما يتيح مشاركتها في اي طاولة حوار وطني.
اما في الكورة، الخزان التاريخي للقوميين فقد تحول الى المعقل الاوحد حيث نجحوا بايصال النائب القومي سليم سعادة بقوتهم الذاتية في صناديق الاقتراع، ولكن ما ساعد في ذلك شخصيته المحببة وسيرته الحسنة وكونه ابن عبد الله سعادة وما له من رمزية حزبية وتقدير كوراني.
الا ان المفارقة هي بتحول الكورة عملياً الى خزان شعبي للقوات اللبنانية حيث حل مرشحها الدكتور فادي كرم اول (حصد 7822 صوتاً) وبفارق كبير عن المرشح القومي سعادة ( حصد 5263 صوتاً).
فيما في المتن، مسقط رأس انطون سعادة ضهور الشوير، فقد تكرست ظاهرة “العوميين” اي اصحاب الجذور القومية والاطلالة العونية. فبعدما حصد الدكتور نبيل نقولا مقعداً نيابياً لدورتين متتاليتين، دخل في العام 2018 الياس بو صعب الندوة النيابية حيث نال حجماً لا بأس به من اصوات الجماهير القومية فيما رسب مرشح الحزب الرسمي غسان الاشقر الذي عمدت قيادة الحزب الى ترشيحه رغم عدم حماسته علّه يستطيع ان يجمع حوله كافة المجموعات القومية ولما لبيته من رمزية وهو ابن أسد الاشقر. فحصد ابو صعب 7299 صوتاً فيما نال الاشقر مرشح الحزب الرسمي 2757 صوتاً. ظاهرة “العوميين” هذه ليست بجديدة، فقد بدأت طلائعها منذ العام 1988 مع ترؤس العماد ميشال عون الحكومة العسكرية يومها، حيث رأى ما تبقى من القوميين المستترين في ما كان يعرف بالمنطقة الشرقية بالجنرال كمتنفس لهم فانضموا الى جماهيره لمواجهة “القوات اللبنانية” الوريثة الشرعية لـ”الجبهة اللبنانية”.
والملفت ان العونيين “يأكلون من صحن” القوميين شعبياً ولكن تحديداً من اصحاب الانتماء المسيحي. هذا المشهد تكرر – ولو بحجم اصغر – مع الوزير السابق وئام وهاب الذي غرف من القوميين الدروز. كما ادرك العونيون كيفية استيعاب القوميين عبر فتح ابواب التوزير على من يدورون في الفلك القومي كفادي عبود ونقولا تويني الذي دعا في بيان اصدره في 9 تموز الماضي الى رفع السرية عن محاكمة انطون سعادة خدمة للحقيقة والتاريخ. يأتي ذلك بعدما كان نجح النائب ميشال المر في ظل غياب العونيين عن الساحة سابقاً باستمالة القواعد القومية في المتن عبر الخدمات على انواعها. هذه المشهدية للحزب “السوري القومي الاجتماعي” تأتي على وقع الانقسامات الداخلية التي أقدم عليها الحزب والتي كانت كرت سبحتها منذ انقسام جورج عبد المسيح عام 1955 مروراً بما عرف في زمن الحرب اللبنانية بجناحي “المجلس الاعلى” و”الطوارئ”، ثم شهد توحيداً مصطنعاً في زمن الوصاية السورية على لبنان، فقد عاد مشهد “الاجنحة المتناحرة” يطغي عليه خصوصاً مع عودة الصراع بين رئيس “المجلس الأعلى” أسعد حردان ومعارضيه الى العلن في ظل قبول استقالة رئيس الحزب فارس سعد حيث اصدر أعضاء المجلس الأعلى المستقيلون من الحزب بياناً في 20 ايار 2020 ينددون بممارسات حردان. وكان الحزب شهد انشقاقاً في 27 تشرين الثاني 2018 مع تأسيس “حركة النهضة السورية – القومية الاجتماعية”، وسبقه انشقاق في 10 تموز 2016 مع ولادة “حركة 8 تموز” التي رفضت يومها قيام التعديل الدستوري الأخير للحزب الذي أدى إلى انتخاب حردان رئيساً لمرة ثالثة.
بناء على ما تقدم، طرح الهلال الخصيب اضحى اليوم كالوقوف على الاطلال في زمن الصراع المحتدم الذي تشهده المنطقة العربية على وقع رفع راية الهلال الشيعي. اما الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي لطالما رفع راية الوحدة والنهضة فمصاب بمرض عضال هو فقدان الوحدة، وهناك شبه استحالة ان يشهد نهضة.