كتب جورج شاهين في صحيفة “الجمهورية”:
قبل ايام قليلة من عطلة عيد الفطر وبعدها، تسرّبت روايات عن احتمال استقالة رئيس الحكومة حسان دياب. وقالت احداها، انّها مرتبطة بإعادة البحث في ملف معمل سلعاتا للطاقة، وتزامنت اخرى مع مسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والشروط التي تُكبّلها، فيما ربطها آخرون بالتعيينات الإدارية والمالية. وقياساً على حجم الترابط في ما بينها، بقي الحديث عن الاستقالة متأرجحاً بين المزح والجد. فلماذا وكيف؟
في المئة يوم الأولى من عمر الحكومة بعد نيلها الثقة، بقي التهديد بالإستقالة منها رهناً بمكوناتها الحزبية. فبعد التهديدات التي اطلقها رئيس تيار «المرده» سليمان فرنجية، بسحب وزيريه قبيل التعيينات في مصرف لبنان والمؤسسات الملحقة به، تجدّد الحديث عند رئيس مجلس النواب نبيه بري باستقالة وزيريه، بعد سعي حلفائه الى إقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومخاطرها المحتملة داخلياً ودولياً.
وعلى الرغم من تراكم المحاولات التي شكّلت سابقة في بداية عهد حكومي لم يكن قد عبر الشهرين الأولين على ولادته، فقد تسرّبت سيناريوهات وروايات عدّة عن احتمال استقالة رئيس الحكومة حسان دياب، تزامناً مع نشوء مجموعة من الأزمات التي مسّت هيبة رئيس الحكومة وموقعه، وخصوصاً عند الحديث عن احتمال لجوء رئيس الجمهورية الى استخدام حقّه المنصوص عنه في المادة 56 من الدستور، طلباً لإعادة النظر في قرار سابق لمجلس الوزراء اتُخذ في 14 ايار الجاري، باستبعاد تنفيذ مشروع معمل سلعاتا للطاقة.
وقبل ذلك تسرّبت روايات اخرى، خصوصاً عند الحديث عن التعيينات الإدارية، من مصرف لبنان الى محافظة بيروت، وما يُخطط لدفعة جديدة من التعيينات الإدارية، وقضايا مرتبطة بمكافحة الفساد، وما يجري في بعض المؤسسات التي تحوّلت حصناً لتيار «المستقبل» على مدى العقود الماضية. فما أثير من حولها كانت له ردات فعل غير محسوبة. وما زاد في الطين بلّة انّها تزامنت وتعبير مراجع دينية سنّية، ومعهم رؤساء الحكومات السابقين، عن مخاوف من المسّ بهيبة موقع رئاسة الحكومة، في مرحلة التقى فيها الرؤساء الأربعة اكثر من اربع مرات في اقل من شهرين، وهو ما لم يكن وارداً سابقاً، حيث كان يُرصد لقاء لهم عند استحقاقات حكومية بارزة، تجاوزت في اهميتها ما يواجه الرئيس حسان دياب من استحقاقات، وهو الذي دخل نادي رؤساء الحكومات من بوابة لم تكن مفتوحة امام احد من قبله.
وتأسيساً على ما تقدّم، بقيت فكرة الاستقالة مجرد رواية غير مثبتة، الى ان اخذت بعض الجدّية والصدقية، في التحرّك الذي قامت به مرجعيات سياسية وحزبية، يتقدّمها «حزب الله»، من اجل تطويق بعض الخلافات التي نشأت في الداخل الحكومي وما بين بعبدا والسرايا الحكومية، من اجل تصفير ردّات الفعل عليها وتحجيمها بتأجيلها على الأقل. وهنا برزت الحركة التي قام بها الرئيس بري، لتوفير المخارج لبعض الإشكاليات قبل تطورها، فكانت مبادرته الى سحب ملف التعيينات المالية والادارية، وتأمين المخرج لملف معمل سلعاتا لإنتاج الطاقة، على قاعدة مزدوجة، اولاها يقول، بألّا يُجبر رئيس الحكومة على التراجع عن قرارات جلسة 14 أيار التي عُقدت في السرايا الحكومية، وكأنّها لم تكن، وخصوصاً لجهة نتائج عملية التصويت التي أسقطت معمل سلعاتا من ثلاثية معامل الطاقة والتغويز. وفي المقابل، عدم كسر رغبة رئيس الجمهورية بإبقاء المعمل حاضراً على لائحة المعامل المنتجة للطاقة الى حين، بعدما تحجّمت الطموحات بإمكان ادراجه اولاً على لائحة المعامل التي يحتاجها لبنان في الفترة القصيرة المقبلة.
وما خلا هذه الرواية، لا يمكن إعطاء اي اهمية لرواية تتحدث عن استقالة رئيس الحكومة، سوى واحدة مرتبطة بمصير المفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولي. فأوساط رئيس الحكومة وفريقه الوزاري المصغّر يراهنون على خطوة ما يمكن تحقيقها عبر صندوق النقد الدولي لفك العزلة التي تطوقه. وان لم تنجح المفاوضات في تحقيق المرحلة الأولى منها، سيكون من الصعب الأمل بدولار واحد من الدول والمؤسسات المانحة خارج ما توفر وما هو مُنتظر، لمواجهة ازمتي النازحين السوريين وجائحة «الكورونا».
ولا يخفي القريبون من دياب، انّه ما زال يعضّ على الجرح، إزاء اقفال ابواب كل العواصم العربية امامه. فالمقاطعة الديبلوماسية العربية عموماً، والخليجية تحديداً، لها تفسير واحد لا يحتمل اي تأويل. ورغم حديث البعض عن مساعدة قطرية وأخرى كويتية، فلم يظهر انّها ممكنة في ظلّ القوطبة الأميركية والخليجية، التي وسمت حكومته بتهمة «حزب الله». وفي الوقت نفسه، لا يمكنه ان يصدّق انّ «بوابة الخلاص» المُقترحة من رئيس «التيار الوطني الحرّ» النائب جبران باسيل والأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، من جهة الشرق في اتجاه سوريا والعراق، طالما انّ الطرق من بعدهما مقفلة على اللبنانيين. والى ذلك، فإنّ الأزمات التي تعانيها دمشق وبغداد، تساوي بين تجربة حكومتيهما وشعبيهما وبيروت، لجهة ارتفاع نسبة الفقر واقتراب البطالة والجوع من عائلاتها، عدا عن فقدان الأمن الإجتماعي، نتيجة النزاعات الكبرى على ارضهما. وكيف يمكن توقّع العكس ان ضُمّت الساحة اللبنانية الى ساحتيهما في المواجهة المفتوحة بين ايران والغرب والعرب، وتحول الشعب اللبناني حالماً ببعض الكماليات التي تحلم بها شعوب هذه الدول؟
على هذه القواعد، التي لا تحتاج الى كثير من التدقيق، فقد بات واضحاً انّ في الحديث عن استقالة رئيس الحكومة خليطاً من المزح والجد. فالعارفون بسلوكيات دياب وعقله، يستبعدون مثل هذه الخطوة، اياً كانت الظروف المحيطة بها. فهو يصرّ على ركوب المغامرة، ولا ينفكّ عن التعبير عن المخاطرة التي اختارها في المواجهة المفتوحة مع الداخل والخارج، وهو لن يوفّر وسيلة لتعزيز موقعه بين الاقطاب السياسيين. فالحديث السابق عن عدم وجود اي نيّة لخوض غمار السياسة الداخلية قد سقط قبل بلوغه الأيام المئة الأولى من عمر الحكومة. وهو يتصرّف، من خلال بعض تحرّكاته الداخلية ومحاولات شبك التحالفات البعيدة المدى التي تتجاوز بعض المحطات، كأنّه يطمح الى ما هو ابعد من ذلك.
وعليه، فإن لم تكن الدفعة الأولى من التعيينات المرتقبة قد عبّرت عن سعيه الى زرع اصدقاء مخلّصين له في بعض المواقع الادارية الحساسة، فإنّ ما سيليها سيعبّر بلغة واضحة عن محاولة بناء فريق له، ويدعمه في ذلك اقطاب آخرون يأملون تعميم تجربته في مواقع ادارية عليا وصولاً الى قصر بعبدا. وفي الوقت الذي باتت السرايا الحكومية تعج بالمستشارين واللجان التي تستوعب عشرات الكفايات المختارة، على قاعدة عدم الانتساب الى هذا الفريق السياسي او ذاك، سيعطي دياب صورة اوضح لما يخطّط له. فهو لم يأتِ الى موقعه ليكون مستعداً للتخلّي عنه لقاء اي ثمن، فمن يدعمه لن يقبل أن يبقى على هامش التركيبة السنّية في لبنان. وهو ما يوحي بنحو لا يرقى اليه الشك، انّ الحديث عن استقالته مجرد مزحة ثقيلة، لكونها خطوة غير مضمونة النتائج، ليس عليه فحسب، بل على التركيبة التي شكّلت حكومته وتسعى الى بناء مستقبل خالٍ من اي مواجهة محتملة، مع فريق كانت له مواقعه، وقد ازيح عنها ومنها، وعليه البحث عن بدائل منها.