كتب عبد الرؤوف سنّو في “اللواء”:
خلص عالم الاجتماع التونسي عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون (1332-1406) في «المقدّمة» إلى أنّ أطوار الدولة الخمسة، تمرّ في ثلاثة أجيال: الأول عندما يؤسّس «الجيل الأول» دولة أو ملكًا، ويضع لهما مقوّمات النجاح والتقدّم والعمران (الاجتماع)؛ فتنمو الدولة وتزدهر. ثم يأتي «الجيل الثاني» الذي يستمتع بالانجازات الحضارية التي تحقّقت، فيعيش أفراده بحبوحة العيش، الى أنْ يبدأ التسلّط على المجتمع. وأخيرًا، يأتي «الجيل الثالث» مثقلًا بفائض القوّة؛ فلا يضيف إلى الإنجازات الحضارية شيئًا، بل يعمد، كما ذكر ابن خلدون، إلى الاستئثار بالحكم والتسلّط والظلم ودوس الناس والاستقواء بسلاحه وجيشه من أجل تحقيق مصالحه، أو مواجهة الناس بقوّة سلاحه، إذا قرّروا الثورة عليه. ولا تتوانى عن الاستنجاد بالقوى الخارجية (الموالي) لتثبيت هيمنته على الناس؛ فتكون النتيجة الحتميّة هي تفكّك الدولة وتصدّع مجتمعها.
سأحاول في هذه الورقة أنْ أثبت أنّ الأجيال الثلاثة التي نظّر لها ابن خلدون، تنطبق على حالة لبنان الطائفي، تزامنًا مع تجدّد الدعوات إلى الفدرلة في الجانب الماروني التي يروّجها ألفرد رياشي من خلال «المؤتمر الدائم للفيدرالية»، أو التي أطلت برأسها في الأيام الأخيرة، كما خطبة المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان بمناسبة عيد الفطر يوم 24 أيار 2020 استكمالًا لمشاريع الانقلاب على لبنان، وشكّلت تحديًا له، كدولة وصيغة. وقد اعتبر المفتي أنّ لبنان تأسّس في الأصل ليؤدّي «وظيفة خدمة المشروع الاستعماري والاحتكاري»، وهي مقولة قديمة ردّدها حزب الله خلال الثمانينيات من القرن الماضي. وقال قبلان، إنّ الصيغة «قد انتهت، وما قام به الرئيسين الخوري الصلح) مؤسّسا دولة الاستقلال(، لم يعد يصلح لدولة إنسان ومواطن، بل أيضًا مرحلة وانتهت»، وقال المفتي بوضوح تام: «إنّ لبنان سقط لأنّ دستوره (الطائفي) فاسد»، وأضاف: «وبالفم الملآن أقول «لا للطائف»… و»لا لفدراليات الطوائف»، قاطعًا بذلك الطريق على دعاة فدرلة لبنان.
والمعروف أنّ لبنان الكبير الذي تأسّس العام 1920 تحقيقًا لمصالح فرنسا وخدمة مسيحيي لبنان كي يكون لهم كيان مستقلّ عن محيطهم، تجاوز بعد سنوات قليلة من إنشائه التجاذبات الطائفية وتحوّل إلى «وطن» للمسيحيين والمسلمين، إلى أنْ جرت تسوية «الميثاق الوطني» العام 1943 التي أمنّت تعايشًا طوائفيًا مقبولًا، وجرى تدميرها على يد «الجيل الثاني» خلال حرب لبنان، فيما يسعى «الجيل الثالث»، فدرلة أم بفائض القوّة التي يمتلكها، إلى تدمير لبنان النظام والميثاق والطائف.
لبنان: من «الجيل الأول» المؤسّس إلى «الجيل الثاني» الميليشياوي
وفق النظرية الخلدونية، فقد قام «الجيل الأول»، ببناء دولة الاستقلال بقيادة رئيس الجمهورية الماروني بشارة الخوري ورئيس الحكومة السنّي رياض الصلح، حيث تحوّل لبنان إلى دولة شرقية متحضّرة، باقتصاد ليبرالي ومجتمع تعدّدي منفتح على العالم بثقافاته وديمقراطياته، كما بتعايش فريد بين أبنائه، جسّده «الميثاق الوطني» و»الصيغة» لتقاسم السلطة بين طوائف البلاد. واستمرّ هذا الوضع على ما هو عليه، مع بعض التوتّرات الداخلية، حتى مطلع السبعينيات من القرن العشرين. لكن عيوب النظام الطائفي أنه جعل الطوائف الكبرى تُمسك بمقدّرات البلاد وتُركّز الإنماء في محافظتي بيروت وجبل لبنان، فتتحوّل بالتالي الأطراف في المحافظات الأخرى إلى بؤر للفقر والحرمان.
ثم جاء «الجيل الثاني» الذي استفاد من البحبوحة التي وفّرها له «الجيل الأول». لكن الخلاف على هوية لبنان وعلاقته بمحيطه العربي، تعزّز بالخلل في التوازنات الطائفية الذي تسبّبت به المقاومة الفلسطينية على أرضه منذ العام 1968، وتدخّلات إسرائيل والخارج في خلافات اللبنانيين أو اصطناعها، أدّت كلّها الى اندلاع حرب لبنان، وسط تعالي الدعوات المارونية إلى تقسيم البلاد أو فدرلتها. وقد قامت الميليشيات بالهيمنة على الدولة ومجتمعها، كما الجيش السوري الذي احتل لبنان حتى العام 2005، والمقاومة الفلسطينية التي خبا بريقها بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982. وقد تأثر اقتصاد الخدمات سلبًا في مرحلة حرب لبنان بفعل الميليشيات، وأثّرت في الثقافة والقيم المجتمعية. باختصار، أنتجت الميليشيات جرثومة الانهيار في البنيان السياسي والتفكّك المجتمعي اللذين تعزّزا بالجيل الثالث بعد «اتفاق الطائف» العام 1989.
مشروع حزب الله في لبنان: رأس حربة «الجيل الثالث»
بعد «اتفاق الطائف»، تمكّن حزب الله المستنسخ من الحرس الثوري الإيراني من أنْ يصبح، تدريجًا، رأس حربة «الجيل الثالث». فاعتبر نفسه جزءًا من أمّة إسلامية محورها إيران، ووضع دستورًا لدولة إسلامية في لبنان العام 1986. وتصاعدت أهمية الحزب في الحياتين السياسية والمجتمعية اللبنانية بتحريره جنوب لبنان العام 2000، واستخدم مقولة «تحرير فلسطين» في خطابات أمينه العام، لكسب التأييد في لبنان والعالم العربي. وبتأثير سيكولوجية سلاحه، فرض نفسه، منذ ذلك الحين، على الدولة، وقام تهميش معظم الأحزاب والقوى السياسية تدريجيًا، حتى التصدّي للشيعة الرافضين أيديولوجيته ومشاريعه. ثقافته وقيمه في مناطق سيطرته وتمدّده.
ومنذ أنْ ارتدّ الحزب إلى الداخل اللبناني، أصبح أكثر تورّطًا في السياسة والمناورات المحلية؛ فدخل إلى المجلس النيابي والحكومات اللبنانية على التوالي منذ العامين 1992 و2005، وترجم فائض قوّته منذ اغتيال الرئيس الحريري والحرب الإسرائيلية على لبنان العام 2006، وذلك عبر ترهيب المجتمع اللبناني وتعطيل عمل المؤسّسات والاستحقاقات الدستورية (الاعتصام في الوسط التجاري لبيروت، ومجلسي الوزراء والنواب بين أواخر العام 2006 وأيار العام 2008، والاستحقاق الرئاسي بين الأعوام 2014 و2016)، وتمكّن من فرض رئيس الجمهورية الذي يريد (التسوية الرئاسية العام 2016 التي أوصلت العماد ميشال عون إلى الرئاسة الأولى، وسعد الحريري إلى الرئاسة الثالثة)، وفرض «اتفاق الدوحة» و»الثلث المعطّل» في مجلس الوزراء العام 2008.
وبُعيد اندلاع الثورة السورية العام 2011، انخرط الحزب فيها، متسبّبًا بشرخ بين اللبنانيين. وأدّى ذلك إلى تضعضع علاقات لبنان مع العرب، بعدما جعل الحزب لبنان، دولة وشعبًا، رهينة لسياسة إيران في المنطقة. وقبل أنْ يجفّ حبر توقيعه على «وثيقة النأي بالنفس» (إعلان بعبدا) عن الثورة السورية في حزيران 2012، انغمس الحزب كلّيًا في صراعات المنطقة كذراع لطهران؛ من اليمن إلى البحرين فالعراق…، ما زاد من الانقسامات الداخلية التي لم تندمل جروحها حتى تاريخه.
ومرّة بعد مرّة، لمس اللبنانيون حقيقة سلاح حزب الله وشريكه الأصغر حركة أمل، في اجتياح بيروت من قبل الفريقين في أيار 2008، وقيام ميليشيا أمل بالهجوم على منطقة الشالوحي وتطويق مركز التيار الوطني الحرّ نهاية كانون الثاني 2018. إشارة إلى أنّ الحزب تسبّب بالحرب الإسرائيلية على لبنان العام 2006، ردًّا على استهداف ملفّ إيران النووي من قبل الولايات المتحدة، بعدما جعل حدود لبنان مع فلسطين المحتلة منصّة لإيران لمقارعة إسرائيل وفق حساباتها ومصالحها في المنطقة.
ولتأمين شرعية سلاحه في الداخل، دخل الحزب في تحالف انتخابي العام 2005 مع قوى حزبية يتناقض معها أيديولوجيًا وسياسيًا (التحالف الرباعي)؛ حتى أنه حصل على تغطية مسيحية له بالتفاهم الذي وقّعه مع التيار الوطني الحرّ في شباط 2006. واستحصل حتى تاريخه، من غالبية القوى السياسية ومن الدولة اللبنانية، مجلسًا للوزراء وبرلمانًا، ومن جمهوره كذلك، على مقولة: «الجيش والشعب والمقاومة» التي عزّزت من وضعه داخليًا، واختبأ وراءها، في مقابل ترك القوى الحليفة أو المتنافسة تتحاصص المؤسّسات والإدارات وتُفسد فيها، حتى أنّه وضع يده على معظم المنافذ البحرية والبرية، الشرعية وغير الشرعية، واستولى على قسم من العائدات الجمركية بطرق التهريب، فضلًا عن تورّطه في تجارة المخدّرات الدولية؛ مدمّرًا سمعة لبنان في العالم.
وبالتدريج، بدأ لبنان خلال «الجيل الثالث» يفقد، بقيادة حزب الله، موقعه السابق الفريد لدى العرب، وبخاصّة في الدول الخليجية؛ حيث يتلقّى منها المساعدات والدعم، ويعمل عندها قرابة نصف مليون لبناني، بعدما جعل الحزب لبنان في قلب الصراع بين الدول العربية وإيران، ومنصّة معادية للعالمين العربي والديمقراطي. من هنا، فقد لبنان دعم العرب والدول المانحة، في مواجهة حالة الإفلاس الكارثية التي يعيشها منذ شهور، وتسبّب فيها الحزب وكلّ القوى السياسية على اختلاف مشاربها التي أفلست الخزينة عبر هدر المال العام والسرقة والنهب، كما الاستحواذ على ودائع اللبنانيين في المصارف وتحويلها إلى الخارج. فانزلق لبنان في عهد سيطرة حزب الله على لبنان إلى الهاوية التي توقّعها ابن خلدون لنتائج هيمنة «الجيل الثالث».
المسيحيون والفدرلة: وجه آخر ضدّ لبنان الموحّد؟
لا يخفى على أحد، أنّ الدعوات إلى «اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة» التي دعا إليها جبران باسيل، لشدّ العصب المسيحي، بعد تراجع حظوظه بالرئاسة الأولى، كما شعبية تياره بين المسيحيين، وفي الوقت ذاته، مطالبة وزير القوّات اللبنانية السابق ملحم الرياشي بـ»الفدرالية الجغرافية»، تأتي متزامنة مع كلام متطرّف للمفتي الجعفري قبلان، ودعوته إلى إسقاط لبنان الميثاق ولبنان الطائف، وإقامة نظام سياسي-اجتماعي جديد. وقد كشف الصحافي سركيس نعّوم عن لقاءات لألفرد رياشي مع الأمين العام لحزب الله أكثر من مرّة، عارضًا عليه فكرة الفدرلة طالما أن حزبه لا يستطيع السيطرة على كلّ لبنان؛ لكن الأخير رفضها لأنها لا تؤمّن «صفوة طائفية» لطائفته، ولا ربطًا بين الجنوب والبقاع الشمالي مع البقاعين الغربي والأوسط. وبرفض المفتي قبلان الفدرالية، يكون الحزب أعطى جوابًا علنيًا بموقفه من الفدرلة.
وتعود دعوات الفدرلة إلى زمن حرب لبنان، يوم ضاقت غالبية المسيحيين ذرعًا بتجاوزات المقاومة الفلسطينية وجرّ لبنان إلى دائرة الصراع العربي-الإسرائيلي، في مقابل انصياع المسلمين واليسار اللبناني التام للفلسطينيين أولًا، ثم للسوريين بعد ذلك، حتى العام 2005. أما عن تجدّد دعوات الفدرلة وما شابه بعد الطائف، وفي الوقت الراهن، فهو، كما خلال حرب لبنان، لشعور المسيحيين الذين كانت لهم الريادة في بناء لبنان بانتهاء سيادة الدولة على شعبها وأراضيها، فضلّا عن تهميشهم على أيدي النظام السوري «الحاكم» وحلفائه المسلمين، وعدم تطبيق «اتفاق الطائف» من ناحية اللامركزية الإدارية، والإنماء غير المتوازن بين محافظات البلاد، فضلًا عن تهرّب المناطق الخاضعة لنفوذ الثنائي الشيعي من الرسوم والضرائب. وبالإضافة إلى ذلك، ظهر حزب الله، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج العسكر السوري من لبنان العام 2005، كقابض على الدولة اللبنانية ومستوليًا على قرارها الداخلي والخارجي، بموافقة حليفه التيار الوطني الحرّ.
ومنذ تراجع إمداداته المالية من إيران، بالعقوبات الأميركية المفروضة عليه وعلى طهران، قام حزب الله بتمويل نفسه من خلال التجارة الدولية للمخدّرات، والتهريب عبر المرافق البحرية، والبرية اللبنانية مع سورية، كما سبق الذكر. وفي بيئته الحزبية وبيئته الحاضنة، تعزّزت ثقافة الخروج على القانون والانتظام العام، من دون محاسبة أو مساءلة (التهريب أساسًا وسرقة السيارات والبناء غير الشرعي، والتعدّي على المواطنين…)، كما التملّص من تسديد الرسوم والضرائب إلى خزينة الدولة، لقاء الخدمات التي تحصل عليها، وبخاصّة في موضوع جباية فواتير الكهرباء والمياه… كلّ ذلك أدّى إلى كفر غالبية اللبنانيين، وبخاصّة المسيحيين منهم بـ»بدويلة» حزب الله. من هنا، عاد الفكر التقوقعي الفدرالي يطلّ برأسه في الخطاب السياسي المسيحي، ويتنشر بين أفراد المجتمع المسيحي، كنتيجة حتمية لحالة الخوف والهلع، بأنه يتم القضاء نهائيًا على حضوره في لبنان على يد حزب الله وسلاحه، وتعزّز ذلك بعودة الخلافات الطائفية على الأراضي في بلدة لاسا. كلّ هذه الأمور تسبّبت في تراجع شعبية الحليف المسيحي للحزب، التيار الوطني الحرّ. ولا ننسى إنّ إرهاب «داعش» في المنطقة، عزّز من حالات الخوف بين مسيحيي لبنان.
وبرأينا، فإنّ مشاريع الانقلاب على لبنان الموحّد، بفدرلته أو بتغيير نظامه وعقده الاجتماعي كدعوة المفتي قبلان، وجهان لعملة تطرّف واحدة، ستؤدّي إلى زوال لبنان في مئويته الأولى التي توقعها المؤلّف في مقال له العام 2018. ومن المعروف أنّ السياستين الدفاعية والخارجية تبقيان بيد الحكومة المركزية في أنظمة الدول الفدرالية؛ فكيف سيتفق اللبنانيون عليهما، إذًا، في الدولة الفدرالية، بينما يختلفون عليهما في لبنان الموحّد؟ وكيف سيتحوّل أعضاء الحكومة الفدرالية المركزية بين ليلة وضحاها، وهم أساسًا ممثلو الطوائف في لبنان الموحّد، إلى «غير طائفيين ومذهبيين»؟ ومن يضمن أنّ هؤلاء لن يكونوا أكثر تعلقًا بالخارج ومصالحه، بداعي حذر الطوائف الفدرالية من بعضها بعضًا؟ أما عن حقوق الأقليات في الفدرالية، فلن تستطيع «المحكمة الدستورية» الفدرالية أنْ تضمنها، كما يحصل في البلدان التي اعتمدت النظم الفدرالية والعلمانية. وأخيرًا: كيف سيتمّ الاتفاق على سلاح حزب الله، وهو أحد مسوّغات مطالبة الموارنة بالفدرالية، ومقت شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني له؟ ولهذا، فإنّ مشروع الفدرالية، وسط الثقافة اللبنانية الطائفية ورفض «الآخر»، قد يكون خطوة متقدّمة نحو اندلاع حرب داخلية وبالتالي تقسيم لبنان، عند أول خلاف بين الأقاليم الفدرالية.