كتبت هيام القصيفي في “الاخبار”:
اعتاد صندوق النقد الدولي أن يتعامل مع دول، مع حكومات، مع أجهزة مختصة. لكنه لم يسبق له أن تعامل مع مجموعات ضمن دولة واحدة، وكل مجموعة تعتقد أنها دولة قائمة بذاتها. هذه انطباعات وفد الصندوق المفاوض. لأن القضية لا تتعلق بأرقام وضرورة توحيدها وهي ألف باء أي مفاوضات، بل تتعلق بنهج وتفكير ورؤية كل فريق لبناني لما يريده من الصندوق. والأخير أصبح حالياً في موقع يفاوض فيه وفوداً لا وفداً واحداً، منهم من هو موجود على طاولة التفاوض، ومنهم من هو خارجها. كل ذلك يترافق مع جو عام من الاستفهامات والأسئلة التي تطرح من أفرقاء لبنانيين تصل الى الصندوق، منذ أن كان في مرحلة الاستطلاع الى ما بعد تقديم الحكومة الطلب الرسمي للاستعانة به. وكل فريق يعرف شخصية عملت أو تعمل في الصندوق، من قريب أو بعيد، يحاول الاستفهام عما يمكن أن يقدمه الصندوق الى لبنان، كي يكون على بيّنة من كيفية الإفادة منه استثمارياً لأسباب سياسية محض. إضافة الى أن جميع المسؤولين السياسيين الحاليين والسابقين، يتدخّلون ويطّلعون على المناقشات، لأن معظمهم إن لم يكن كلهم، يضع مستقبل وجوده في السلطة والإفادة من الصندوق على الطاولة. بذلك يعرف الرئيس سعد الحريري كل ما يدور من مفاوضات ويطّلع عليها وله رأي فيها، تماماً كما يطّلع على كل تفاصيل النقاشات داخل مجلس الوزراء، وهو من أجل ذلك يدافع عن التفاوض مع الصندوق ولو أتى عن طريق حكومة يعاديها.
في خلاصة الانطباعات العامة أن «ركاكة» تشوب موقف لبنان ومطالبه وحقيقة ما يريده من الصندوق والأولويات الضرورية. هذا الجو الملبّد فرض نفسه منذ اللحظات الأولى للتفاوض ولا يزال مستمراً، ولا سيما في ضوء التجاذبات اللبنانية الداخلية. ولكن إذا كان ذلك مفهوماً في أولى الجلسات التي تعتبر كعملية تمهيدية، إلا أنه ليس مبرراً أن يستمر الجو الضبابي بعد توالي الجلسات، وأن يبقى موقف لبنان ليس فقط لجهة الأرقام وتناقضاتها، بل كنقاش تفاوضي من دون أي وضوح في الرؤية وحتى أحياناً بكثير من «البدائية» وإغفال حقائق أساسية وتعامٍ عن حقائق يعرفها الصندوق تماماً عن الوضع الداخلي. في حين يفترض أن يصبح أداء لبنان أفضل، وأن يتحول عنصراً ضاغطاً لتكثيف العمل، لأن وضعه المالي والاقتصادي والاجتماعي تحديداً لم يعد يحتمل المماطلة، بل يحتاج الى مبادرة سريعة، لا يعكسها أداء «الوفود» المفاوضة. وهذا التعثّر لا يلائم لبنان، لأن طلبه المساعدة جاء في توقيت دولي دقيق، والكل يدرك أن إطار عمل الصندوق سياسي بالدرجة الأولى. لذلك تكمن دقة التوقيت الحالي تزامناً مع وضع اقتصادي دولي مأزوم، وانفجار مشكلات اجتماعية نتيجة أزمة كورونا، إضافة الى انشغال كل دولة بترتيباتها الداخلية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، العنصر الأساس في الصندوق، التي تستعدّ لانتخابات رئاسية. من هنا، يعطي الصندوق إشارات واضحة منذ اللحظة الأولى وإلى الساعات الأخيرة بأن لبنان يحتاج الى قوة دفع واضحة لتحديد أولوياته والتعاطي بجدية مع أرقام وتوجّه عام. وهو في المقابل يحاول وضع أولوية محددة، «إبعاد شبح المجاعة» عن لبنان.
وهذا الكلام لا يحمل صبغة يراد بها التأثير المعنوي «إنسانياً» لناحية عمل الصندوق الذي ترفضه جهات لبنانية سيادياً ومالياً واقتصادياً، علماً بأنه في المحصّلة ليس مؤسسة خيرية، بل لأن لبنان لا يزال في مكان ما يستحوذ على اهتمام دولي على الأقل في المرحلة الراهنة لتأمين الأولويات التي تمنع جنوح الغالبية من اللبنانيين نحو الفقر والجوع. وهذا كلام عكسته بدقة أوساط مطلعة على نقاشات الدول المعنية بالتمويل مع الصندوق. وجرى الحديث عن أن وصول التمويل إلى نحو عشرة مليارات دولار هو أمر غير مرجّح، بل إن التوجّه الأكثر قابلية للتطبيق هو بمنح لبنان قروضاً بنحو خمسة مليارات دولار مع تحديد الأولويات، التي تصبّ في خانة الترجمة العملية والإبقاء على سقف الشروط، وإن بمرونة أكثر. بذلك يمسك الصندوق العصا من نصفها، فلا يمنح لبنان ما يطلبه.
ولأن القرار النهائي بالمساعدة سيكون سياسياً بامتياز، بعد انتهاء المفاوضات، يمكن حينها معرفة العامل الذي سيؤخذ به لتحديد أفق التدخل لمصلحة لبنان أو عدمه، من خلال تحديد حجم المساعدة. وهذا يعطي فكرة أوضح عما يراد للبنان في المرحلة المقبلة، لناحية استمراره واقعاً تحت تأثيرات تجاذبات دولية أو تركه يتخبط في مشكلاته من دون أي مساعدة تذكر، حتى الانهيار الكامل. العبرة تكمن في تغير أداء لبنان، ما دام قد بادر الى طلب المساعدة، والأرقام وحدها لا تكفي، لأن المرتبة الثانية من التفاوض، وهي الأهم، تكمن في أمرين: توحيد الرؤية بدل محاولات الاستفراد لتأمين أولويات استثمارات ذات طابع سلطوي. والثاني التعامل مع التوقيت على أنه أساسي، لأن استحقاقات الانتخابات الأميركية والهموم الأوروبية والمشكلات الاجتماعية، وموجة كورونا ثانية محتملة، قد تضع كل مشاريع لبنان في خانة الانتظار.