لم تكن وقائع يوم «العودة» لانتفاضة 17 تشرين الأول، السبت، كافيةً للجزمِ بالمدى الذي ستأخذه الثورة في نسختها الثانية وإذا كانت ستنجح في تكرارِ مشهدياتِ «المدّ» الشعبي التي طبعتْ الاحتجاجات على مدى أسابيعها الأولى، ولكن ثمة خلاصاتٍ واضحة ارتسمتْ من قلْب المناخات التي سبقتْ ورافقتْ استعادة الأرض نبْضها على وقع ازدياد تشظيات الانهيار المالي الذي تسعى السلطة إلى كبْح سرعته من خلال محاولة الوصول إلى تفاهُم على حزمةٍ إنقاذية مع صندوق النقد الدولي من ضمن مسارٍ لا تغيب عنه السياسة ولا وهج الصراع الاقليمي وامتداداته الداخلية.
فبعد نحو 8 أشهر على انفجار الانتفاضة بوجه الطبقة السياسية تحت شعار «كلن يعني كلن»، وبسلّة أهدافٍ راوحت بين تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلّين (قبل استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري) وقيام قضاء عادل وإسقاط منظومة الفساد وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، حملت الموجةُ الثانيةُ من ثورة 17 تشرين الأول متغيراتٍ، من جانب الشارع كما السلطة، عكستْ في جزءٍ منها التحولات في الواقع اللبناني، على المقلبين السياسي والمالي – الاقتصادي، وخصوصاً منذ انكفاء التحركات الاحتجاجية مع تَمَدُّد فيروس كورونا المستجد.
وإذا كان الوضع الاقتصادي – المعيشي، الذي دَفَع نحو نصف الشعب إلى تحت خط الفقر الذي صارت له أحزمةُ بؤسٍ في غالبية المنطقة، يشكّل «وقوداً» رئيسياً لـ«الثورة -2» بعد ما شهدتْه الأشهر الأخيرة وخصوصاً في أعقاب ولادة حكومة الرئيس حسان دياب (يناير الماضي) من سقوطٍ دراماتيكي لليرة أمام الدولار (صار يناهز 4000 ليرة) وانفلاتِ الأسعار وصولاً إلى ما يشبه «رصاصةَ الرحمة» التي أطلقتْها جائحة «كورونا» على ما تبقى من اقتصادٍ محطّم، فإنّ هذا المعطى ليس الوحيد الذي تغيّر بين مرحلتيْ الانتفاضة.
ذلك، أن الوضع السياسي اتخذ أبعاداً مختلفة منذ تشكيل ما وصفتْها الثورة نفسها حينها بأنها «حكومة الأقنعة»، وتحديداً لجهة اشتداد الخناق الدولي على لبنان من بوابة اعتبار أن «حزب الله» بات المُمْسِك الفعلي بكل مفاتيح اللعبة الداخلية، كما بالإمرة الاستراتيجية، وهو ما جعل الخارج إما يدير ظهره لبلاد الأرز وإما يضع سلّة شروط لمدّ يد المساعدة المالية لها، وهي شروطٌ تتشابك مساراتُها بين المفاوضات مع صندوق النقد، وبين دينامية المواجهة المفتوحة في المنطقة وآخِر فصولها «قانون قيصر» الأميركي الذي بات عنصراً مؤثّراً في المسرح اللبناني.
وفي حين كانت كل القراءات للنسخة الثانية من الانتفاضة تشي بصعوبة تَصَوُّر أن تبقى محكومة بالضوابط التي طبعتْ انطلاقتَها الأولى وخصوصاً في ظلّ تحويل الوضع المعيشي المأسوي الشارع أشبه بـ«طنجرة ضغط»، فإن عاملاً جديداً دَخَل على الثورة مع إطلاق مجموعاتٍ شعارات سياسية لم يسبق أن نزلتْ على الأرض، وأبرزها المطالبة بتطبيق القرار 1559 وإنهاء وضعية سلاح «حزب الله» خارج الشرعية، وصولاً إلى طرْح مجموعاتٍ أخرى عنوان إسقاط النظام مع تصويب مباشر على رئيس الجمهورية ميشال عون إلى جانب الدعوة لإسقاط الحكومة.
وهذا البُعد السياسي تحديداً في التحرّكات المستعادة في الشارع، هو الذي استدعى «حبْس أنفاسٍ» حيال تداعياته المحتملة، ولا سيما بعدما شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة «حرباً نفسية» أطلقَها مناصرو «حزب الله» وحلفاء له تحت عنوان «سلاحنا دونه الدم»، في موازاة سيناريوهات استباقية رسمتْها مواقف لكبار المسؤولين وقادة عسكريين ووزراء حذّرت من أعمال شغب وقطْع طرق سيجري التصدي لها بحزم.
ورغم انكفاء عنوان القرار 1559 وسلاح «حزب الله» قبيل موعد التجمع في «ساحة الشهداء» في وسط بيروت عند الثالثة بعد الظهر، مع نأي أحزاب (مثل الكتائب) بنفسها عنه وتأكيد أن مشاركتها في التحركات هي تحت شعار الانتخابات المبكّرة، وسط تحذير مجموعات من «الثورة» من أن طرْح إشكالية السلاح في الشارع، هي من ضمن عملية تصفية حساباتٍ بين قوى 8 و14 اذار، وبهدف تفخيخ الانتفاضة وتفجيرها من الداخل، وهو ما ظَهَرَ من خلال رفْض بعض أطيافها المشاركة في تظاهرات السبت، مقابل إصرار آخَرين على «عدم ترْك الساحة» للأحزاب، لم يتأخّر هذا «الفتيل» في الاشتعال قرابة الرابعة والنصف من بعد الظهر مع عودة السخونة إلى «خط تماس» الخندق الغميق – ساحة الشهداء على خلفية محاولة محتجّين كانوا يهتفون ضدّ «حزب الله» وسلاحه التقدّم في اتجاه جسر الرينغ حيث كان مناصرون لـ«حزب الله» وحركة «أمل» مستنفرين وتصدّوا «بما يلزم» من هتافات دعْم للحزب وحاولوا التقدّم في اتجاه المنتفضين، قبل أن يشكّل الجيش والقوى الأمنية حاجزاً بشرياً فاصلاً بين الطرفين وتحصل مناوشاتٌ تخلّلها رشْق الجيش بالحجارة من مشاركين في الانتفاضة.
وفيما كانت العدسات شاخصة على حجم الاستقطاب الشعبي الذي بدأ خجولاً وسرعان ما اتسع مداه مع وصول مجموعات من طرابلس والبقاع وحتى الجنوب وجل الديب وكسروان وغيرها، لتحقّق الانتفاضة حضوراً لا يُستهان به في زمن «كورونا» ومَخاطره وبدا بمثابة «بروفة» لما هو آتٍ، اعتبرت أوساط سياسية عبر «الراي» أن مشهدية السبت عكست توجساً مزودجاً:
* الأول من السلطة التي بدت من خلال التحذيرات الرئاسية والأمنية من أي مسار شغب مع تلويحٍ بالتصدي الحازم له، وكأنها تخشى اندفاعة شعبية قد يصعب ضبْطها أو القفز فوق دلالاتها، وخصوصاً في ظل العيْن الدولية على لبنان وربْط الدول المانحة بين مساعدة بيروت وبين وجود حاضنة شعبية وسياسية لمسار الإنقاذ المالي.
* الثاني من «حزب الله» الذي لم تتوانَ الأوساط عن اعتبار أنه «نَفَخَ» في عنوان القرار 1559 الذي جرى رفْعه قبل أيام من إحدى مجموعات الانتفاضة وحاول جعْله على «لائحة أهداف» الثورة ككلّ، وذلك بغية شدّ عَصَب بيئته وإثارة «نقزة» مناطق شيعية كانت أثبتت حضوراً قوياً في الثورة بنسختها الأولى، والأهمّ في إطار محاولةِ بثّ الخوف في صفوف الراغبين بالمشاركة في تظاهرة أمس وتوجيه رسالة عبّرت عنها الحملات الترهيبية على مواقع التواصل بأن «الخط الأحمر» أمام عودة قضية السلاح إلى التداول وتكريسها عنواناً إشكالياً في الشارع ما زال قائماً، ولا سيما بعدما كان الحزب نجح في الأعوام الأخيرة بسحْب هذا الملف من التداول.
ناهيك عن أن أي منحى جارِف للانتفاضة، على صعوبة تَصَوُّر نجاحه بإحداث تغيير جذري للسلطة السياسية، يجعل الحزب يخسر ما راكمه على مدى أعوام مع طبقةٍ سياسية نجح في تطويعها بشتى الوسائل وصولاً لإرساء توازناتٍ يديرها وفق حساباتِ الداخل ومشروعه الاقليمي.
وإذ كانت مشاركةُ «الكتائب» العلنية في تحرّكات أمس، تثير إشكاليات في صفوف الانتفاضة التي انطلقت تحت شعار «كلن يعني كلن»، وسط رفْض مجموعاتٍ منها بصراحة مطلب الانتخابات النيابية المبكرة باعتبار أنها لن تجدي نفعاً إذا جرت في ظل القانون الحالي الذي سيستنخ البرلمان نفسه وتوازناته، فإنّ الانقسام حيال عناوين المرحلة الثانية ظهرتْ بوضوح في ساحة الشهداء، كما مناطق عدة تَقاطر منها ثوارٌ، حيث عبّر البعض عن أن لا إمكان لنجاح أي خطة إنقاذٍ أو محاربة الفساد في ظل استمرار السلاح غير الشرعي، مقابل اعتبار آخَرين أن إثارة الموضوع في هذا التوقيت خاطئة ويمكن أن تستدرج فتنة وتشتّت التركيز على الهدف الأمّ المتمثل بالإطاحة بالطبقة السياسية والحكومة وبمنظومة الفساد التي أوصلت البلاد إلى الانهيار الكبير.
وفيما عمد متظاهرون غاضبون في وسط بيروت إلى تكسير واجهات محال تجارية ورمي الحجارة على قوات الأمن التي ردّت بإطلاق الغاز المسيل للدموع، كان لافتاً تأكيد رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في تغريدة له «أن الأهداف التي تَحَرَّكَ الشعب اللبناني برمّته من أجلها، من شمال لبنان إلى جنوبه، ومن بحره إلى سهله، هي أهداف معيشية إصلاحية»، مشدداً على «ان من المهم جداً الالتزام بهذه الأهداف بغية الوصول إلى تحقيقها وعدم تشتيت الجهود في اتجاهات مختلفة يمكن أن تؤدي إلى إفشال الحراك».
وقالت سنا (57 عاماً)، وهي متظاهرة من مدينة النبطية، لـ«فرانس برس»: «جئت لأطالب بحقوقنا وأولها لا لسلاح حزب الله، السلاح يجب أن يكون فقط بيد الجيش… حتى نعيش بكرامة».
وأضافت بينما رفعت لافتة كتب عليها «لا لحزب الله ولا لسلاحه»، «السلاح والجوع يأتيان معاً… علينا أن نستعيد كرامتنا أولاً وبعدها نطالب بحقوقنا».
وقال أحد المتظاهرين من منطقة الضنية شمالاً لقناة «ال بي سي» التلفزيونية: «آخر همنا سلاح حزب الله طالما أنّه متجه الى الخارج»، موضحاً أن الحكومة «طلبت فرصة والفرصة انتهت… نحن في الشارع من أجل لقمة عيشنا».
وقالت الطالبة الجامعية كريستينا حداد (21 عاماً) لـ«فرانس برس»: «نزلنا من أجل تحصيل حقوقنا الأساسية كالطبابة والتعليم والعمل وهي أبسط الحقوق التي على الانسان أن يتمتع بها ليبقى على قيد الحياة».
واعتبر جون مكرزل، وهو صاحب إحدى شركات العقارات (رويترز)، إن الحكومة لن تقوى على محاربة الفساد بسبب وجود فصائل مسلحة أقوى من الدولة.
وقالت المتظاهرة ماري نور، وهي محامية، إن الوضع صعب للغاية، خصوصاً الاقتصاد. وأضافت أن الناس لم يعودوا يرغبون في الاحتفالات أثناء احتجاجاتهم لأنهم غاضبون.