كتبت أنديرا مطر في “القبس”:
في ظلّ انهيار اقتصادي غير مسبوق، ومع عجز الحكومة عن تحقيق أي أنجاز فعلي للخروج من الأزمات التي تعصف بلبنان سياسياً ومالياً، انطلقت السبت، موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية، أعادت الزخم لانتفاضة 17 تشرين الأول 2019، بعد فترة خفوت وانكفاء نتيجة انتشار وباء «كورونا».
غير ان التظاهرات التي أريد منها تجديد الانتفاضة وحشدت لها قوى الحراك وأحزاب المعارضة، تحولت الى أعمال شغب وإشكالات ميدانية ومواجهات بين المتظاهرين وشبان موالين للثنائي الشيعي، تقدموا من منطقة «الخندق الغميق» إلى وسط بيروت هاتفين بشعارات مذهبية، وأقدموا على رشق المتظاهرين بالحجارة والزجاجات الفارغة، وكان عدد من المتظاهرين قد بدأوا برمي المفرقعات النارية باتجاه حرس مجلس النواب، وعمدوا الى تحطيم واجهات المحال وسط بيروت.
وسجلت عمليات كر وفر، ما اضطر القوى الأمنية الى التدخّل وزيادة تعزيزاتها، خشية تطوّر الأمور. وحصل توتر في منطقة الشياح – عين الرمانة حيث خطوط التماس القديمة، وانتشر فيديو لعناصر من حزب الله في الضاحية الجنوبية يطلقون الرصاص بالهواء متوعدين من يحاول المساس بالسلاح ومرددين شعار «هيهات منا الذلة».
مجموعات من مختلف المناطق اللبنانية توافدت منذ صباح السبت الى ساحتي الشهداء ورياض الصلح، وسط بيروت، في حين كانت القوى الأمنية والجيش تنشر عناصرها وتقيم الحواجز المؤدية الى ساحات التظاهر. وسرعان ما تحول وسط بيروت إلى ما يشبه «ساحة حرب» نتيجة مواجهات بين محتجين وقوات الأمن استخدمت فيها قنابل الغازـ لاسيما بعد وصول عدد من المجموعات الحزبية التابعة لحركة أمل وحزب الله إلى مشارف ساحة الشهداء حيث منع الجيش تقدم هؤلاء وشكلوا جداراً بشرياً للفصل بين الطرفين تفاديا لحصول أي احتكاك. واللافت ان عودة الاحتجاجات استبقتها محاولات أحزاب السلطة وأجهزتها الأمنية برسائل تحذير علنية ومبطّنة لمحاولة اجهاض تظاهرات 6 حزيران، سواء عبر التلويح بشارع مقابل، او بمحاولة وضع سقوف للتحرّكات.
عناوين وانقسامات وانطلقت الدعوات من اكثر من جهة للعودة الى الساحات والشوارع من جديد، رفضاً للأوضاع السياسية والاقتصادية التي آلت اليها البلاد بعد أشهر ثلاثة من الإغلاق، فاقمت الأزمة المالية المستفحلة. وعلى الرغم من الحجر الصحي فلم تتوقّف الاحتجاجات كلياً، وإنما اقتصرت على تحرّكات «موضعية». وبقدر تنوّع مجموعات الحراك الداعية للمشاركة في تظاهرات 6 حزيران، فقد تنوّعت شعاراتها وتوسّعت؛ من مطالب بضرورة تحسين الوضع المعيشي ووقف الهدر والفساد، الى الدعوة لانتخابات مبكرة، وإسقاط الحكومة. وللمرة الأولى، برزت، إلى العلن، المطالبة بنزع سلاح «حزب الله» وتطبيق القرارات الدولية، لأنّ «هذا السلاح بات خارج مفهوم المقاومة، بسبب تغطيته المنظومة السياسية الفاسدة»، وفق بعض المجموعات.
تعدد الشعارات وتنوّعها خلّفا انقساما حادّاً بين مجموعات الحراك، وحجّم المشاركة الشعبية التي لم تكن على قدر التحشيد، فبعض المؤيدين للانتفاضة عزفوا عن المشاركة؛ إما خوفاً من أعمال شغب وإما اعتراضا على شعارات معيّنة، مثل مطلب الانتخابات المبكرة الذي يتبناه حزب الكتائب وحزب سبعة، في حين ترفضه مجموعات وازنة في الحراك؛ لأنه ــــ برأيها ــــ سيعيد انتاج الطبقة السياسية نفسها، وأن الأولى حاليا المطالبة بتشكيل حكومة إنقاذية. غير ان العنوان الخلافي الأبرز يتعلّق بنزع سلاح «حزب الله»، الذي تبنّته بعض المجموعات، لا سيما مؤيدي اللواء اشرف ريفي الذي اعتبر ان «نزع السلاح هو مطلب أساسي ودائم، وهو علة العلل»، ومنتديات مؤيدة لبهاء الحريري الطامح إلى دخول المعترك السياسي.
طرْح هذا الشعار أثار انقساماً «مناطقيا»، وبين مجموعات الحراك نفسها. وقالت سنا (57 سنة) وهي متظاهرة من مدينة النبطية «جئت لأطالب بحقوقنا وأولها لا لسلاح حزب الله، السلاح يجب أن يكون فقط بيد الجيش.. حتى نعيش بكرامة». وأضافت بينما رفعت لافتة كتب عليها «لا لحزب الله ولا لسلاحه»، «السلاح والجوع يأتيان معاً.. علينا أن نستعيد كرامتنا أولاً وبعدها نطالب بحقوقنا». وقال أحد المتظاهرين من منطقة الضنية شمالاً «آخر همنا سلاح حزب الله طالما أنّه متجه الى الخارج»، موضحاً أن الحكومة «طلبت فرصة والفرصة انتهت.. نحن في الشارع من أجل لقمة عيشنا».
ومنذ الإعلان عن تظاهرة السبت، بدأت موجة من الحملات الإعلامية من قبل مناصري «حزب الله» على منصات التواصل تهاجم التحرّك. «حزب الله»: مشبوهة مصدر مقرّب من «حزب الله» اعتبر ان التظاهرات مشبوهة، متهماً حزب الكتائب وحزب سبعة بالترويج للتظاهرة بطريقة استفزازية. في حين كتب الشيخ فادي رضا المقرّب من الحزب على «تويتر»، مهدداً: «من يفكر مجرد تفكير في نزع سلاح الشرف فسننزع روحه.. أعلى ما في خيلكم اركبوه». تهديدات «حزب الله» وحلفائه عشية التظاهرة أرخت بثقلها على قسم كبير من مؤيدي الانتفاضة، ما دفع ببعض المجموعات إلى الدعوة إلى التظاهر يوم الجمعة، تحت العناوين الاقتصادية والاجتماعية، كما حصل في صيدا والنبطية، وفي طرابلس التي شهدت تظاهرتين متقابلتين؛ الأولى تطالب بنزع السلاح، والأخرى تدافع عن بقائه. العسكريون المتقاعدون مصادر سياسية معارضة تحدثت لـ القبس وربطت بين موقف «حزب الله» من احتجاجات السبت، وتراجع مجموعة العسكريين المتقاعدين المنضوين مع النائب شامل روكز عن المشاركة في التحرّك، الذي كان روكز قد دعا الى المشاركة فيه بكثافة، خلال لقاء مع العسكريين المتقاعدين، متوجهاً إليهم بالقول: «هل هذا هو العهد الذي كنا نتمناه؟ هل تقبلون بأن نكون شهود زور على الفساد؟».
الحكومة وقانون قيصر وفي مقابل تزخيم الشارع، تبدو الحكومة أعجز من الاتيان بأي حل يرضي المنتفضين. وهي تسابق الوقت بين مفاوضات شاقة مع صندوق النقد الدولي ــــ بهدف الحصول على عشرة مليارات تحتاجها خلال الأسابيع المقبلة ــــ وإعادة تموضع تجنّبها تداعيات قانون قيصر الأميركي، الذي سيُحكم الخناق على حلفاء النظام السوري المكونين للسلطة الحالية.
مصدر إعلامي وصف المفاوضات مع الصندوق «بأنها مراوحة نشطة في المأزق»؛ وبينما يقرن المجتمع الدولي مساعدة لبنان بتنفيذ الاصلاحات، توغل الحكومة اللبنانية في ضرب مبادئ الاصلاح، وتستمر في ممارسة السياسة بالذهنية التقليدية التي اعتادتها في السنوات السابقة. وآخر تجلياتها في هذا الاطار فضيحة انشاء معمل سلعاتا، الذي سيكبّد خزينة الدولة الفارغة ملايين الدولارات، إضافة الى فضيحة أخرى، تتعلّق باسترداد الدولة للقطاع الخلوي، الذي تقاسمه مناصفة التيار الوطني الحر وحركة أمل. ما بعد 6 حزيران ليس كما قبله! تتجه الأنظار إلى ما بعد السادس من حزيران لمعرفة التوجهات الحكومية التي ستتغير بفعل الحراك الشعبي الذي استعاد وهجه بمعزل عن حجم التحركات وهوية القوى التي شاركت فيها وكيفية استثمارها. ولا يبدو أن هناك رهاناً على متغيرات كبيرة وملحوظة، فقد سمحت الظروف للسلطة بكل وجوهها أن تحصن مواقعها وتعزز مناعتها تجاه أي تغيير دراماتيكي محتمل، بحسب موقع «المركزية»، وهي لن تتجاوب على ما يبدو مع مطالب شريحة واسعة من اللبنانيين تطالبها بأبسط حقوقها. يعترف أحد مهندسي التحرك بحجم وقوة السلطة وقدراتها المادية والعسكرية والمخابراتية التي تعوّضها الفشل في كل المجالات الأخرى، مضيفاً أن الاعتراف بهذا الواقع لا يعني الاستسلام للتركيبة الحالية. ولذلك ليس من السهل توقع ما قد يأتي به حراك السادس من حزيران من متغيرات، ولكنه سيؤثر فعلاً في إجراء عملية فرز أكثر دقة من قبل، ولن يكون ما جرى سهلاً على السلطة التي تستشعر الحصار العربي والخليجي تحديداً والغربي، وتسعى إلى فتح قنوات التواصل مع الخارج استجداء لدعم مالي وسياسي مطلوب، لا سيما في ما يتعلّق بالعودة إلى منطقة «النأي بالنفس» وتنفيذ الإصلاحات.