كتب النائب السابق جواد بولس في صحيفة “نداء الوطن”:
بينما تتعالى الأصوات الداعية إلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة لا سيما في زحمة الأحداث، قد تضيع الفكرة على البعض بأن الانتخابات المبكرة ليست هدفاً بذاتها بل الطريق إلى تحقيق تغيير مفيد على صعيد التمثيل النيابي. وبما أن هناك فئة صاعدة من الشباب الثائر لم يتسنّ له خوض انتخابات نيابية بعد أو آخر خاضها اقتراعاً دونما الالتفات إلى تحديات العملية الانتخابية وتعقيداتها، أرى أنه من المفيد أن أضع بين أيديهم تجربتي المبنية على أحداثٍ عايشتها، بالطريقة التي فهمتها وعلى ضوء المعاني التي تكشّفت لي بفعل الإدراك المتأخر.
لا أدّعي أنني على حق بشكل قاطع. كما لا أزعم بأن تجربتي يمكن لها أن تعيد إنتاج ذاتها، أو… أن الديناميات التي تتحكم بالساحة السياسية في الدائرة التي سعيت لتمثيلها ترشيحاً أو نائباً، هي عينها التي تحكم الدوائر الأخرى، بل لعلّي ولعلّ تجربتي الخاصة قد بتنا خارج المكان.
خاضت عائلتي السياسةَ منذ القرن التاسع عشر. جدي الأكبر قاد قوات يوسف بك كرم المسلحة في ثورة ضد الأتراك، ثم خاض حفيده جواد ثم والدي سيمون الانتخابات في أزمان الحرب والسلم، وكان الفشل لهما حليفاً أكثر من النصر.
إلا ان الحكاية قد تُختصر في محطتين. العام 1943حيث تولى جواد الجد شرف تمثيل الأمة في المجلس النيابي ويعيد التاريخ الكرّة متأخراً العام 2005 فينجح الحفيد، أنا!
لهذا السرد التاريخي هدف. هو ملخّص حياة كل سيادي لبناني، مقدّرٍ للاستقلال، ممتنعٍ عن استلاب أموال الخزينة العامة، وهي أخلاقيات من شأنها إبعاده عن الدخول تحت قبة البرلمان، لا سيما إن حاول ذلك كمعارضٍ للاستبلشمنت وأساليب الحكم المتبعة. كالإديين نحن… لطالما نُظر إلينا كهؤلاء المرشحين الذين يريد الناخب فعلاً اختيارهم لأن نفسه تنبئه بأنه ربما سيكون أفضل حالاً معهم، إلا أن صوته الهامس ذاك سيغرق في تنازع مصالحه وسينتهي معزّياً نفسه بكلمتين؛ ربما في المرة المقبلة!
رغم ذلك طفت إلى السطح خلاصةٌ منطقية مغايرة. أنه وربما ليتم انتخابنا، أقلّه في حالتنا، فلا بدّ من حدث مزلزل؛ استقلال الرابع عشر من آذار، أو من يدري، ربما ثورة. هذا من دون إهمال الحقيقة الساطعة الأخرى وهي أنه عامةً فإن أصحاب المناصب الرسمية لهم اليد الطولى، لا سيما في مناطق “الأطراف”، لذا، مهما انطوى اعتقادكم على أن رجلاً سياسياً، حزباً أو تياراً قد أفل نجمه في مرحلة ما، أو سيق إلى مقصلة المحاسبة، أو أن حبّه لدى الرأي العام قد تحوّل بغضاً، فانتم واهمون! إن المناصب تعطي صاحبها امتيازات غالباً ما تكون عصيّة على ريح التغيير؛ ليس اقلها أن أصحاب المناصب هم من وضعوا قوانين الانتخاب وقرروا مواقيتها. وهكذا، كلما كان شغل المنصب طويلاً كلما ترسّخ وجود صاحبه فيه. هذه هي القاعدة رقم واحد.
كل كلام خلاف ذلك هو اعتقادٌ بُني من خيال!!! اللهم إلا إذا اعتمد الإنسان على الحظّ وإن الحظّ لمتقلّب الفصول!!!
في دائرتي يستلزم طرح التنانين أرضاً وقتاً. يستلزم مثابرةً وبذل الجهد والذات والتخطيط، شأنه شأن الدوائر الأخرى. وهذا يقودنا إلى القاعدة رقم 2؛ كلُّ منافس لديناصورات المناصب هو أقرب إلى الفشل من النجاح. أقولها وقد وقعتُ على مرشحين كثر ما كانوا ليترشحوا مطلقاً لو قاسوا فرص نجاحهم. غالباً ما خُدع المرشحون ودُفعوا لخوض غمار السباق من قبل متلاعبين خبراء في هندسة الانتخابات ولوائحها. الغالب أكثر أنهم ما استفاقوا بعد على معرفة انه قد تم التلاعب بهم. فلا تكونوا حمقى مفيدين وانتبهوا من الاستغلال.
ومن هنا نستلّ النصيحة رقم 3؛ لا تترشحوا إن كان كل هدفكم أن يتم انتخابكم. إن كنتم تشعرون أنه بانتخابكم وحده ستتاح لكم ممارسة سياسةٍ ذات معنىً وان البرلمان وحده يسمح لكم بإحداث فرق، إذ ذاك واجبٌ عليكم أن تراجعوا دوافعكم والتزاماتكم مهما كانت القضية التي ترشحتم للدفاع عنها. فالعمل السياسي لا يقتصر على خوض الانتخابات مرشحين، بل هو إعلاء قضايا سياسية بكل الوسائل التي يجيزها القانون على مدى سنوات وعقود أحياناً.
الانتخابات التي خضتها قد اعطتني دروساً حول حركية الناخب وأفكاراً عن سلوكه ودوافعه الأساسية التي تحدد اختياراته. سقتُها من دون ترتيب لأن أثرها يختلف من ناخب إلى آخر وكذلك ثقلها بالنسبة لكل منهم تبعاً لآرائهم الخاصة.
عليه، ما هي المصالح المتضاربة التي تلعب دوراً لدى الناخب وغالباً ما تفرض أهميتها لديه فتعلو على اعتبارات جدارة المرشح، مواصفاته الإحترافية ونزاهته الشخصية؟
المقاربة الأولى؛ ينزع الناس إلى تفضيل انتخاب من يعرفونه. العلاقات الشخصية والتواصل او التشبيك بمفهومه الواسع هما أساس.
المقاربة الثانية؛ تتمحور نظرة الناخب حول الفوائد المباشرة عليه التي يمكن جنيها من التصويت إلى مرشح بعينه، أو الجزاء الذي قد يتعرض له في حال لم يصوّت له. أول المداميك إذاً هو البحث عن الحماية. هل يمثّل المرشح الناجح مصدر حماية يعوّض الناخب مما حُرم منه في نظام الإدارة المهترئ، هل يحميه من ناخبي شاغل المنصب السابق والأدهى هل يحميه من القانون نفسه في حال خرقه؟
المقاربة الثالثة؛ هل يستطيع المرشح الناجح أن يلوي الأذرع ليقرر توزيع الموارد الشحيحة كالخدمات التي توفرها الدولة، الوظائف، التراخيص وما شاكلها؟
المقاربة الرابعة ولعلها الأكثر وضوحاً؛ سياسة المرشح. يميل الناس إلى الاعتقاد أن السياسة هي مواقف المرشح وتصريحاته المعلنة حول قضايا معينة بمعزلٍ عمّا فعله من أجلها أي بمعزل عن الممارسة الفعلية. بل إن واقع أن تكون هذه الأفعال على نقيض التصريحات والمواقف المعلنة أمرٌ لا يربك الناخب بتاتاً عندما يدلي بصوته في غالبية الأحيان.
المقاربة الخامسة؛ الهويات الطائفية. سيخبركم معظم من تلتقونهم أنهم ضد الطائفية ولو اختلفوا في ما بينهم على ماهية المفهوم. لا تعوّلوا كثيراً على ذلك، لأن الطائفية ظاهرة اجتماعية متجذرة في هذا البلد. لهذا السبب سيعلو الخطاب الطائفي في كل انتخاب. فالواقع بكل بساطة أنه أمرٌ فعّال!
المقاربة السادسة؛ شبح العنف أو الاضطرابات الأمنية. وإن كنت لن أسهب في هذا الحديث فسأكتفي بذكر أن مشاهدَ اغتيال نواب قوى الرابع عشر من آذار بشكل ممنهج من دون أي عقاب، بحيث بات المرشح السيادي مجبراً على اتخاذ تدابير احتياطية استثنائية، لم يكن بالأمر المساعد في الانتخابات اللاحقة. أحزن للقول أن هذا الضعف المحسوس قد شكّل قوة دفع للخصوم. أما دوافع القاعدة الشعبية لهؤلاء التي أملت تعزيزَ مواقعهم فإني أُسقط عن نفسي ادّعاء الرغبة في تحليلها.