كتبت ليال الاختيار في صحيفة “الجمهورية”:
حتى الساعة كل المداولات في الكواليس السياسية والديبلوماسية تتلخص في أن لا مساعدات من صندوق النقد الدولي تلوح في الافق القريب، ما خلا بعض الفتات. فإما الثمن السياسي، واما مواجهة مصير الانهيار منفردين.
اكثر من ذلك، هناك من يعتبر انّ مسار هذه المساعدات سيكتب حكاية لبنانية مشابهة لحكاية مشروع السلام الاسرائيلي ـ الفلسطيني، انما بحبر «حزبُ اللهي» – اميركي».
فمنذ وعد بلفور، الى الانتداب البريطاني، الى لجنة الامم المتحدة، الى الصيغ الاميركية المتنوعة لحلّ النزاع التاريخي في فلسطين، بقي المشروع المنتظر، قابعاً على عتبات بيت لحم، يمكث منتظراً نبوءة من على ارض القداسة، تسلك طريقها الى ارض السياسة.
نبوءة مماثلة يحتاج اليها لبنان اليوم، بعدما أضحى وعد صندوق النقد ومشروعه للبنان، شمّاعة تشبه شمّاعة السلام الفلسطينية. مع اختلاف في المضمون والبنود والسردية التاريخية، انما مع تشابه في السردية السياسية. فلا دولة قوية الّا بشروط غربية. والّا مصير لبنان المنقسم بين فصائله السياسية سيكون الفوضى. وفي أحسن الحالات التقسيم الداخلي من باب الكانتونات الحزبية، التي بدأت تظهر معالمها في كثير من المناطق. حيث شكلٌ ما من أشكال الفدرالية في الجنوب والبقاع وضاحية لبنان الجنوبية، اضحى واقعاً الى حد كبير. ولا ينتظر لا المؤتمر التأسيسي ولا تشييع الصيغة اللبنانية.
في مقابل المداولات الرسمية التي ينشغل الداخل في ارقامها المتباينة بين مصرف لبنان والحكومة وجمعية المصارف، والتي حلّت بقبول صندوق النقد بأرقام الحكومة، المداولات الدولية الرسمية في مكان آخر مختلف تماماً. هناك الارقام تفصيل، انما الإصلاح ضرورة، بسبب اقتناع دولي بأنّ تجفيف مصادر الفساد هو المدخل لتحجيم تضخم السياسيين. وهنا طبعاً لن يجرؤ اي من القوى السياسية على تطبيق شروط صندوق النقد القاسية، ما سينعكس تراجعاً شعبياً كبيراً، بعدما قامت العلاقة بينهم وبين مواليهم على مبدأ المنفعة المتبادلة: الولاء مقابل دخول الملاك.
على الضفة الاخرى، الشروط السياسية هي المدخل وهي الاساس، وسط تشدّد غربي في أنّ موضوع ترسيم الحدود وتطبيق القرارات الدولية وخصوصاً ترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة، كما وتطبيق القرار 1701 وضبط الحدود مع سوريا، هي المدخل الاساس لأي مساعدة مالية حقيقية.
وقد عُلم هنا انّ هذه الطروحات الجدّية اصبحت مدار بحث متواصل في كل دوائر القرار السياسية، فأعادت بعبدا طرح وتفعيل موضوع ترسيم الحدود على خط «حزب الله» ـ عين التينة، بعدما كانت قد سحبته من التداول من قبل. علّه يكون مدخلاً الى هدنة مع الجانب الاميركي، بسبب تعذّر تنفيذ الشروط الاخرى.
فراسل احد وزراء القصر السابقين البارزين الاميركيين، عبر القنوات الديبلوماسية، متعهداً بتسلّم ملف ترسيم الحدود البحرية، من مبدأ فصل المسارين البري والبحري. الّا انّه اصطدم بالرفض الاميركي لتكليفه بملف كهذا، بحجة انّه في عهدة الرئيس نبيه بري.
إثر هذا الرفض، جرت محاولة اقناع عين التينة بتلزيمه الملف من باب المصلحة الوطنية، حماية للبنان من الانهيار الكامل، بعدما عُلّقت المفاوضات بعد رفض فصل المسارين البري والبحري.
مهمة الإقناع هذه حُملت لأحد الوسطاء الأمنيين، الّا انّها طبعاً جوبهت برفض قاطع من عين التينة، المقتنعة بأنّ الموضوع ابعد من ترسيم حدود. بل هو محاولة قديمة جديدة لترسيم العلاقة مع الاميركيين.
مقابل محاولات الخرق هذه، التي وان كانت بمضمونها تحمل مآرب شخصية، انما في الشكل هي ساعية لإنقاذ ما تبقّى من العهد. بعدما اصبح الانفجار الكبير اقرب من اي وقت مضى.
هنا تقبع الحكومة الاكاديمية عاجزة عن انجاز او تحقيق اي خرق يُذكر، ما عدا تسجيل الرقم 97 % في سجل مذكرات رئيس حكومتها. فهي بحسب المعطيات، كل القنوات الغربية والعربية تتعامل معها اليوم تحت مسمّى «الحكومة الميتة»، وسط إقتناع هذه القنوات، بأنّ ما من بديل حتى الساعة، وبالتالي ما من ضوء اخضر لتفجيرها لا في الشارع ولا في السياسة.
«الحكومة الميتة»، بحسب تعبير الدول التي تعوّل الاخيرة على مساعدتها، تركض كمن يركض مكانه عاجزاً عن التقدّم او الرجوع. وزراؤها مشلولون وقراراتها ملك القيّمين عليها، وبالتالي فالتخلّي عنها هو رهن للتوقيت الذي لم يحن حتى الساعة.
«حزب الله» بدوره يعيش حالة تخبّط، مقتنع بأنّ الحكومة انتهت على وقع أربعة استحقاقات (مرحلة ما بعد كورونا، طرح القرارات الدولية، قانون قيصر والمحكمة الدولية)، كما وحائر بعدما قوبل طرحه بجس نبض الرئيس سعد الحريري بالعودة على رأس حكومة سياسية بالرفض التام لدى «بيت الوسط».
في المحصلة، الكل يتبع سياسة «الصبر الاستراتيجي» لتقطيع المرحلة بأقل خسائر ممكنة، في إنتظار الرئاسة الاميركية المقبلة، التي سترسم معالم الشرق الاوسط الجديد وحدود نفوذ القوى فيه. ولكن هل يملك لبنان ترف الانتظار المالي؟ طبعاً لا. إذ انّ كل المؤشرات تقول، انّ تثبيت سعر الصرف الاصطناعي لن يدوم طويلاً، كما وانّ تمديد امد العمر المالي والاقتصادي للمصارف ومصرف لبنان المركزي والخزينة، مستحيل لفترة اكثر من اشهر !!!
ما يعزز كل هذه النظريات، هي عودة الشارع الذي حتى وان استُثمر لأغراض سياسية واستخباراتية داخلية وخارجية، الّا انّه سيبقى نتيجة لفشل تركيبة قوى سياسية، فرّغت الدولة من الدولة، وجعلت لبنان بلداً مفلساً وعاجزاً، معزولاً ومنكوباً .
جميعهم سواسية في حضرة هول إفقار شعب بكامله عن سابق تصور وتصميم… يُستكمل اليوم بنسف ما تغنّى به ميشال شيحا يوماً حين قال: «غنى المجتمع اللبناني هو أنّه ائتلاف عائلات روحية»…